ذكريات العيش الماضي في الجنة الصفاقسية
في سنوات الخمسينات وبداية الستينات كان السكن في الجنان متعة ومجلبا للراحة والاطمئنان, رغم قسوتها لغياب وسائل العيش الضرورية التي نتمتع بها اليوم… فقد كانت حياتنا بسيطة ومتواضعة لكن نشعر بالراحة النفسية والهدوء والسكينة…
فلا ماء يجري في القنوات بل نستخرج الماء من الآبار عمقها لا يقل عن عشرين مترا فيصعد منها ماء صاف بارد … ومن منا لا يتذكر أمهاتنا الكادحات وكيف كن يتعاملن معنا لنملأ لهن السطول والجفان قبل خروجنا إلى المدارس …أما الطبخ فكان على الحطب والفحم والبابور… وتنظيف الماعون بالإرشة …والنوم على السرير العربي والجراية كرينو …أما الاستحمام في المطهرة على الكرسي العربي وتسخين الماء على البابور بصوته المزعج ثم تطورنا إلى البابور كاتم الصوت …
تمتعنا بطفولتنا ونعمنا باللعب والمرح فنشأنا سالمين معافين من الأمراض … كنا نأكل من خيرات الجنان : خضر من كل الأنواع…بيض عربي… دجاج عربي … المنتوج وفير من اللوز ومختلف الغلال … الزيت و”النعمة “في الجراري… كل ما نطلبه ونحتاجه متوفر بفضل العولة… أما عن تنقلاتنا فإننا نقطع الزناقي الرملية بطولها” للخروج إلى “المركز” حيث الدكاكين لقضاء احتياجاتنا أو لركوب الحافلات العمومية للتوجه إلى المدينة وأية حافلات هي؟ لا رفاهية فيها غير نزر قليل من المقاعد المريحة ومازلت اذكر الحافلة Berlier ” عدد 72 التي افنت حياتها في خط الافران … السيارات قليلة عددها لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة ومن يمتلكها؟ غير العدد القليل والنادر جدا من المواطنين لأن امتلاكها ضرب من ضروب الغنى وبحبوحة العيش ..نقطع الزناقي للالتحاق بالمدرسة أرجلنا الرقيقة تغوص في الأتربة ولسعها يؤذينا صيفا… أما الحيوانات التي تجر العربات المحملة تلاقي الأمرين من عناء هذه الأتربة فتغوص العجلات وتغوص قوائمها أما أصحابها غالبا ما يطلبون المساعدة من المارين لدفع عرباتهم …
آه من زمان لقينا فيه شتى أنواع الصعوبات ولكن كنا راضين حامدين شاكرين فلا فوارق اجتماعية كبيرة ولا بذخ …طبعا أغنياؤنا كانت حياتهم أكثر رفاهية ولكن ليست بعيدة عن مستوى عيش الأغلبية … أكاد أجزم أن حياتنا اليوم تحسنت ألف مرة أو يزيد عما كنا عليه… صحيح المدنية غزت بيوتنا اليوم ولكن المشكلة أننا كنا نصل إلى المدينة في 10 دقائق أما اليوم فنقضي فيه زمنا أطول بكثير ونتكبد فيه مصاريف أكبر ألا يكفينا البعد عن المدينة حتى نلاقي الضنك من حركة السير في الطرقات…
بقلم محمد العش