صفاقس المدينة التي ادارت ظهرها للبحر
قد تنسى و انت تتجول في صفاقس انك قريب من البحر ، و ان هذه المدينة المزدحمة بالحجارة و الآجر و بالأسلاك الحديدية تواري زرقة جميلة و أفقا كاد يكون الأجمل لولا غبار رمادي يتدفق من مداخن شاهقة.
و قد تشتاق في يوم ربيعي الى الاستماع لصوت النوارس و هي تستقبل قارب صياد ، أو تودع قرص الشمس وهو يغوص في ماء “سيدي منصور” فتتموج الألوان بين ارجواني بلوري و بنفسجي اقحواني ، و قتها ستحاول يائسا ان تجد منفذا الى البحر ولكن دون جدوى فكل الممرات موصدة وكل الثغرات مغلقة. ماذا عساك ان تفعل وقد شيدت المساكن الفخمة و تعالت المصانع و احدثت الموانئ الممنوعة على العامة. قد تفكر في الابتعاد قليلا و الاتجاه نحو شاطئ “تبرورة” لكن بلا فائدة فالحواجز الرملية التي أقامتها الجرافات تحول دون وصولك الى هذا الفضاء الرحب الذي طالما انتظرنا تهيئته، و كبر حلمه فينا و تلاشت أحلامنا فيه.
تلك هي صفاقس اضحت كالمدينة الأرملة، بعدما كانت عذراء جميلة، عروسا للمتوسط . لطالما تغنى بها الرحالة و الشعراء ، لطالما وصفها المشرقي و المغربي، فهي التي قال عنها الادريسي : “يصاد بها من السمك ما يعظم خطره ويكثر قدره… وجل غلاتها الزيتون والزيت وبها منه ما ليس يوجد بغيرها مثله وبها مرسى حسن ميت الماء وبالجملة إنها من عز البلاد ” . وهي صفاقس نفسها التي زارها المبشر “ايفالد” في بداية القرن التاسع عشر فقال فيها : “قد لا توجد على كامل ضفاف البحر الأبيض المتوسط مدينة لها ما لصفاقس من موقع متميز و محيط جميل فتان.”.
وقد يكون من العسير انتقاء بعض الأسطر من جملة كم هائل من النصوص و الأشعار التي خصت هذه المدينة و اشادت بما لها من الحسن والجمال، ولكن ما يدعو الى الحسرة هو ان هذا الوجه الاصيل لصفاقس، قد تغيرت ملامحه و تشوه جماله ، فحجبت البساتين و طمست المعالم، كيف لا و قد خربت حتى المقابر و أبعد البحر. نعم ابعد و اطرد و سيج حتى خلناه فارقها و هجرها.
ولكن دعنا نسأل عن البحر ونستجلي أخباره : هل هو الازرق الذي عهدناه تنصب فيه “المصائد” و ترسي فيه السفن ” فإذا جزر الماء بقيت السفن في الحصاة وإذا مدّ رجعت السفن.” أ هو الذي تقصده ” التجّار من الآفاق بالأموال الجزيلة لابتياع المتاع والزيت”؟ هل هو ذاته البحر الذي يكتنز على “صدف يشتمل على لؤلؤ صغير الحب”؟
صرخنا في اعماقه فرجع الصدى، و كأنه منهك او ميت لا يرد. حتى حركته باتت ثقيلة بفعل تراكم الزيوت و السوائل على سطحه و كأن موجه اصابه الفتور، يرمي بثقله على الجدران المخرمة فتتراكم على حاشيته علب البلاستك و قوارير الخمور. تمزق الشباك احشاءه و تقتلع نباته فلا يسلم منها صغير و لا كبير. وتجر اذيال الخيبة سفنه فلا تجارة نافعة و لا صيد وفير. هكذا اضحى حاله كالشيخ الهرم، لا يعانق الارض و لا الأرض تعانقه، منبت، محاصر، كأن “نابتون” هجره.
على امتداد من هذه السواحل جابت سفينة المغامر” جازون” أعماق البحار في بحثه عن الجزة الذهبية، لتخبرنا الاسطورة انه في “بحيرة تريتون” يوجد قصر”بوزيدون” الذهبي حيث تسكن هذه المياه آلهة عبدها الاغريق اسوة بأهل “ليبيا” كما أكد ذلك هيرودوت .
و ان كانت هذه التفاصيل لا تعدو ان تكون مجرد عناصر اسطورية ذات ابعاد رمزية بالأساس فهي توضح مدى اهتمام المجتمعات القديمة بهذه البحار و وعي القدامى بثرائها البيولوجي . فكانت المنتجات الفنية في تلك العصور تعبر عن اندماج كلي مع حياة البحر . فغير فسيفساء سجلت طرقا خاصة بصيد السمك واحتفت بتنوع اجناسها و ألوانها. كما كانت الأيقونات ذات البعد التوطمي تظهر آلهة البحار وهي تمتطي الدلافين و مخلوقات غريبة أخرى. فمن يزور المتحف البلدي بصفاقس يلاحظ من الوهلة الاولى ان ليس ثمة موضوع يستدعي التأمل اكثر من البحار من كائناتها و اساطيرها.
كما لا يفوت الزائر او الباحث ان يلاحظ ان تاريخ هذه المنطقة كان مرتبطا بحياة الملاحة و التجارة البحرية، فعلى سواحلها شيدت أعرق المدن مثل “طينا ” و “اكولا” و “يونقة” و أقيمت المواني العظيمة . و لعل ما تبقى من آثار في منطقة “بطرية” يقيم الدليل على اهمية هذا الموقع، فيكفي ان نشاهد صورته الفضائية حتى تتضح لنا ملامح و اشكال مينائه القديم، فلم يكن من العبث ان يختار الفينيقيون _ ذاك الشعب الذي خبر البحر و عرف اسراره_ هذا الموقع لتشييد “اكولا” التي يضرب تاريخها في القدم . وقد حدثنا اكثر من مؤرخ عن عظمة صرحها و ارتفاع معالمها، ويكفي على سبيل الذكر ان نستعرض ما قاله البكري عند حديثه عن محرسها : “فيها منار مفرط الارتفاع يرقى إليه في مائة و ستّ و ستّين درجة”.
و من يستحضر ساحل صفاقس و خليج قابس لا يمكنه ان ينسى ارخبيل قرقنة تلك الجزر التي حدثنا عنها هيرودوت حين اخبرنا بأن بها بحيرة يوجد فيها تبر الذهب. و هي نفس الجزيرة التي ركب اليها حنبعل ليهاجر منها الى الشرق، فعرفنا من خلال الروايات الرومانية انها كانت موقعا ذا شأن تشيد فيه معابد الآلهة، و ترسو في موانئه السفن الحربية والتجارية على حد السواء.
و ارخبيل قرقنة ليس بالارخبيل الوحيد الذي يجاور سواحل صفاقس . فقبالة منطقة الحشيشينة و على مقربة من قرية الخوالة تتربع جزر الكنائس في عرض البحر كما هو اللؤلؤ في صدف محار. و يكفينا فخرا ان هذا الأرخبيل يعد من أهم المحميات الطبيعية في تونس. فعلى بعد اميال فقط من برج “يونقة” شيدت كنيسة على ارض جزيرة صغيرة تنتمي لهذا الأرخبيل.
مدغشقر: الجزيرة المفقودة في كوم التراب. قالوا ان الأرض لا تكفي فعانقوك. سموك “مادام كسكار” وما علمنا الله من الأسماء الا القليل. كانت القوارب على ساحلك الصغير ترسو فطمسوا ضفافك و ألحقوها باليابسة. غيروا حتى الجغرافيا. فلا اصداف بعد اليوم توشحك و لا موج يؤنس وحدتك.
طينة ايتها الجارة القديمة الجديدة ، القريبة البعيدة هلا رفعت اللثام عن وجهك الصبوح ، هلا همست لنا بسر الصمود. هلا حدثتنا و لو قليلا عن قرطاج الحبيبة. طينة ايتها الملكة الساهرة على أحواض الملح، ايتها الاخت التوأم , ايتها الأم، هلا فتحت لنا ابواب سورك القديم فندخلك احبة سالمين مسالمين. هلا رويت لنا قصص الأولين ، هلا قدمت لنا النصيحة و افصحت عن الحكمة. فلا البحر خانك و لا انت خنته . و لا الملح ذاب و لا انت اذبتيه. على جدرانك لا تزال حبات الفسيفساء تصرخ ألوانها تشهد على ماض مجيد، و على مقربة من عتباتك كانت السفن ترسو ثم تشد الرحال الى افق نشتهيه.
على هذه الارض ما يستحق الحياة” طعم سمك “الخضير” في الربيع، صباغ الأرجوان القديم، نور يتدفق من الزيت و بحر ازرق يناديك”.
صفاقس: لست متكبرة لترفضي الآخرين، و لا انت جحودة لتتنكري للجميل، فلماذا أدرت ظهرك للبحر؟
صفاقس يا بلدي الساكن في دمي .. انتفضي من تحت الركام.. انتفضي
هزي ذراعك الى الأعلى وانتصري.. استنشقي الهواء من جديد.. تحركي..
بللي رجلك في الموج .. تطهري.. مشطي شعرك الذهبي ..
عانقي البحر فهو حبيبك العائد بعد رحيل… فأنت العروس نزفها.
عادل الجموسي / صفاقس في 04 فيفري 2015