صفاقس : مسيرة 12 جانفي 2011 يوم حاسم في ثورة الشعب ..
بدا صباح الأربعاء 12 جانفي 2011 في مدينة صفاقس منذ ساعاته الأولى منذرا بعاصفة هوجاء تختزن غضبا ونقمة في الصدور قابلة للاندلاع في أية لحظة في نفوس مواطنين يشعرون كغيرهم من أبناء الجهات بالتهميش والحرمان لعقود، خيّم الصمت على أرجاء المدينة التي تعودت على النشاط والحركية، يومها توشحت صفاقس وعلى غيرعادتها بالحزن، وأغلقت أبوابها كليا استجابة للإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد الجهوي للشغل.
الشوارع والأنهج والأسواق كانت مقفرة إلا من بعض المارة الذين كانوا يكسرون رهبة الصمت، صمت المدينة كانت تشقه بين الفينة والأخرى الأصوات المحتجة أمام مقر اتحاد الشغل أوالقادمة إليه وفي الذهن أكثر من سؤال وفي النفس أكثر من تطلع إلى فجر جديد.
مظاهرة حاشدة
ساعات قليلة كانت كافية لتجمّع زهاء 100 ألف مواطن شبابا وشيبا، أطفالا ونساء في مسيرة ضخمة ردد فيها العمال والنقابيون والحقوقيون والعاطلون والموظفون شعارات تنادي بالحرية والكرامة ومحاربة الفساد الذي نخر البلاد.
المسيرات الشعبية جابت أغلب شوارع المدينة الرئيسية من الحبيب بورقيبة إلى الهادي شاكر إلى القصبة ثم 18 جانفي متجهة إلى مقر الإذاعة الجهوية ولجنة التنسيق للتجمع البائد والولاية التي أمامها حرقت أول صورة للمخلوع بن علي. المسيرات سرعان ما تطورت إلى مواجهات عنيفة مع قوات الأمن التي استعملت الهراوات والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي والحي مما خلّف شهيدا (الشاب عمر الحداد)، وعشرات الإصابات في صفوف المتظاهرين الناقمين.
المحتجون واجهوا الرصاص الحي بصدور عارية ونقمة دفعتهم إلى حرق مقر لجنة تنسيق لتجمع المنحل والمتكون من 5 طوابق ضخمة بنيت بأموال الشعب، وإضرام النار في المقرات الأمنية والمستودع البلدي وعدادات المناطق الزرقاء والسيارات الأمنية والعجلات المطاطية.
إقالة وزير الداخلية
صفاقس اشتعلت في ساعات قليلة وتصاعدت أعمدة الدخان في أماكن مختلفة من مدينة المال والأعمال وبدا أن الأهالي لن يتراجعوا في إصرارهم على القضاء على الديكتاتور وكانت أول رسالة منه إقالة وزير الداخلية رفيق الحاج قاسم من مهامه وتعويضه بأحمد فريعة.
قرار الإقالة لم يثن المتظاهرين على المواصلة في احتجاجاتهم وصداماتهم مع رجال الأمن والتصدي لكل أسلحته وقنابله المسيلة للدموع التي واجهها المحتجون بالحليب للتخفيف من تأثيراته على العيون المتطلعة إلى غد أفضل.
الساعة كانت تشير إلى الواحدة إلا 10 دقائق زوالا، لما تدخلت وحدات الجيش الوطني التي احتمى بها الأهالي في أكثر من مفترق طريق وواصلوا في مواجهتهم الصلبة لقوات الأمن التي تشتت هنا وهناك بين الشوارع الرئيسية والأحياء السكنية وخارت قواها أمام إرادة الشعب التي لا تقهر.
الجيش الوطني لازم الحياد بل وكانت نداءاته واضحة لرجال الأمن للعدول عن إطلاق النار ومهاجمة الغاصبين المحتجين، وقد طوّقت الدبابات والعربات المصفحة وسيارات الجيش مقرات السيادة في المدينة من مركز الولاية ومقرات البريد وبعض البنوك والإذاعة الجهوية وغيرها من مقرات المرافق العمومية.
الجيش تمركز في مفترقات الطرقات، والأمن واصل حرصه على تفريق المتظاهرين الذين كان يزداد عددهم من حين إلى آخر ويزداد إصرارهم على المضي في طريق المواجهة والإنتفاضة الشعبية العارمة. لعبة الكر والفر تواصلت لساعات، وامتلأت الشوارع حجارة ورمادا، ولئن انهار الأمن وتراجع، فإن شباب صفاقس والقاطنين فيها لم يتراجعوا بعد أن شعروا بانبلاج فجر جديد بعد ان انسحب رجال الشرطة بزيهم المدني والرسمي من كل الشوارع وولوا الأدبار.
إرادة لا تقهر انسحاب
رجال أمن بوحداتهم المختلفة والتحام بعضهم بالجماهير الغاضبة كان محل متابعة بقية جهات البلاد ووسائل الإعلام العربية والأجنبية وصفحات المواقع الإجتماعية وخاصة الفايسبوك الذي لعب أبطاله دورا فاعلا في نقل الصورة والمشهد بطريقة حينية.
المشهد العام كان هكذا يوم 12 جانفي إلى أن تم اتخاذ قرار منع الجولان لما سارع رب العائلة إلى المخابز وبعض الفضاءات التجارية المفتوحة على استحياء شديد للتزود بحاجيات غذائية قد تغيب غدا.
الاحتجاجات والصدامات العنيفة تواصلت بنفس الوتيرة في الأيام الموالية بصفاقس وغيرها من جهات البلاد الثائرة كانت حصيلتها بولاية صفاقس 3 شبان هم الشهداء عمر الحداد وسليم الحضري وبسام بن أحمد.
هذا اليوم التاريخي المشهود الذي ساهم في انهيار أركان الديكتاتورية بعد أن أدخل في القلوب الذعر والرهبة في مفاصل الحكم المتسلط، كان إعلانا صريحا ورسالة مضمونة الوصول بنهاية الطاغوت، يومان فقط قبل مسيرة 14 جانفي الحاشدة بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، اليوم عدنا إلى هذا التاريخ من خلال صور خاصة بالشروق للوفاء والذكرى وربما للعبرة أيضا.
راشد شعور وأنور الغريبي / الشروق