بقلم جيهان مقني : تاريخ السياسة الاقتصادية و التنموية بتونس .. اختلال التوازنات و الموازنات
يتخبط اليوم الاقتصاد التونسي في أمواج الإفلاس لتبقى أهدافه متقلبة و مشوهة و قصيرة المدى فهو اقتصاد بلا رؤية و لا إرادة و لا إدارة على امتداد 3 عقود على الأقل و لا يملك الآن سوى الارتماء مجددا في أحضان صندوق النقد الدولي و البنك العالمي ليظفر بقرض باهظ التكلفة و مشروط تتنازل من خلاله تونس مرة أخرى عن استقلالية قرارها في تحديد خياراتها الاقتصادية و تستجدي به المؤسسات الدولية لإغاثة ما تبقى من المنظومة الإنتاجية.
إن هذه الحصيلة السلبية للاقتصاد التونسي ماهي إلا نتيجة متوقعة لسياسة اقتصادية هشة تفتقد لخطة تنموية مضبوطة و لرؤية إستراتيجية واضحة المعالم. لهذا لابد من التذكير بتاريخ السياسة الاقتصادية و التنموية بتونس لاسيما ظروف الانخراط في منظومة العولمة بطريقة غير مدروسة في إطار التوزيع الغير متوازن للأدوار الاقتصادية العالمية و الاكتفاء بالقيام بأنشطة المناولة لصالح المؤسسات الأوربية. مما أدى إلى خلق تبعية إزاء التمويلات الخارجية أصبح فيها اللجوء إلى التداين الخارجي ضروري لتغطية العجز المزمن في تمويل الميزانية و نفقات الدولة.
لقد انخرطت تونس في منتصف الثمانينات في منظومة العولمة و اقتصاد السوق الذي شكل في واقع الامر تراجعا عن الإستراتيجية التنموية المتبعة غداة الاستقلال و المرتكزة على استرداد السيادة الاقتصادية لتونس بالاعتماد في مرحلة أولى على القطاع العام كمحرك أساسي للتنمية المستندة على بعث أقطاب صناعية كبرى موزعة على الجهات مع السعي في مرحلة ثانية لتشجيع القطاع الخاص على الانخراط في العملية التنموية. و كل ذلك بهدف التوصل لبناء اقتصاد وطني إنتاجي قائم على النهوض بالصناعة و الفلاحة و الخدمات.
وفي هذا السياق اختارت تونس في المراحل الأولى لاستقلالها في إطار الأفاق العشرية للتنمية لفترة الستينات إستراتيجية تنموية تعطي الأولوية لبناء صناعات وطنية في شكل أقطاب تنموية موزعة على الجهات مراعاة لمقتضيات التوازن الجهوي. كما ركزت المخططات التنموية ذات الصلة لفترة ما بعد الاستقلال على استكمال مقومات الاستقلال الاقتصادي و الحد من التبعية الاقتصادية الهيكلية للاقتصاد التونسي إزاء فرنسا. و تم في هذا الإطار إحداث البنك المركزي التونسي و العملة الوطنية و تأميم الأراضي الفلاحية. و بذلك يمكننا القول ان القطاع العام و المؤسسات العمومية التابعة للدولة التونسية أثناء تلك المرحلة قد اضطلعا بدور اقتصادي و تعديلي هام في بناء و تطوير القطاعات الإنتاجية و المعملية.
و تزامنت عشرية السبعينات أيضا مع وضع الأطر التشريعية و المؤسساتية لتشجيع القطاع الخاص التونسي الناشئ على الانخراط في العملية التنموية و تحديدا في قطاع الصناعات المعملية و معاضدة جهود القطاع العام في انجاز المخططات التنموية القائمة على تكثيف الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية خاصة منها الصناعة وكذلك تطوير الخدمات و لا سيما منها القطاع السياحي.
و اللافت للانتباه أن التجربة التنموية التونسية خلال عقدي الستينات و السبعينات تميزت وفقا لما ورد في العديد من الدراسات العلمية بنجاح تونس في تحقيق نسبة هامة من أهدافها التنموية بالاعتماد أساسا على إمكانياتها الذاتية مع توفقها أيضا في الحفاظ على توازناتها المالية الكبرى من خلال التحكم في المديونية الخارجية و تحقيق التوازن في ميزان التجارة الخارجية و ذلك بفضل الارتفاع الملحوظ للموارد المتأتية من النفط.
و في ذات الوقت شرعت تونس في مفاوضات مع المجموعة الاقتصادية الأوربية في محاولة لإبرام اتفاق تعاون معها يساعدها على انجاز برامجها و مخططاتها التنموية القائمة على منظومة إنتاجية صناعية لكن الاتفاق المبرم بين الجانبين سنة 1969 لمدة خمسة سنوات اكتسى صبغة تجارية صرفة و قد شكل أولى الخطوات المبكرة لإقحام تونس في منظومة التبادل الحر شانه في ذلك شان اتفاق 1976 الذي جاء في إعقاب انقطاع التجربة الاشتراكية للتنمية و انخراط تونس في مرحلة الاقتصاد الليبرالي الموجه لاستقطاب الاستثمارات الخارجية و الانفتاح الاقتصادي و التجاري على المجموعة الأوربية.
و كانت النتيجة تراجعا ملحوظا في مرد ودية الاقتصاد التونسي و بروز بوادر أزمة اقتصادية حادة نتيجة ارتفاع المديونية الخارجية بسبب انهيار أسعار النفط المتزامن مع تعثر القطاعات الإنتاجية و الصناعية و الفلاحية و الخدمية إضافة إلى الخلل الذي طال التوازنات الكبرى للاقتصاد التونسي في ظل تراجع موارد الدولة و الارتفاع الكبير لنفقاتها.
و بذلك أصبح ميزان الدفعات في عجز متفاقم بداية من سنة1983 مما أدى إلى ارتفاع نسبة التداين الخارجي ثلاث أضعاف لتصل الى 85 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي سنة 1986 و كانت النتيجة خضوع تونس لأول مرة لما يسمى ببرنامج الإصلاح الهيكلي الذي تم إقراره بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
ويعتبر هذا البرنامج في واقع الأمر منعرجا كبيرا في التوجهات و الخيارات الاقتصادية لتونس باعتبار انه كان الآلية التي تم من خلالها إقحام تونس تحت تأثير الأزمة الاقتصادية في منظومة العولمة و اقتصاد السوق عبر برنامج إصلاحات هيكلية يطبق عادة على البلدان التي تمر بمثل هذه الأوضاع الصعبة.
وهو ما حصل لتونس التي اضطرت لإدخال تغييرات جوهرية كبرى على توجهاتها و أولوياتها التنموية للعشريتين المواليتين للاستقلال و هو ما أدى فعليا إلى إضاعة جل المكاسب التي تحققت في مجال بناء منظومة إنتاجية وطنية خاصة في مجال التصنيع.
و الجدير بالذكر أن تونس تبنت هذه التوجهات الكبرى و التي جاءت في قطيعة تامة مع الإستراتيجية التنموية المتبعة أثناء العقد الأول من الاستقلال التي توفقت خلالها تونس على الاعتماد ا على إمكانياتها الذاتية لبناء أسس الدولة التونسية الحديثة.
إن كل هذه العوامل تفسر الأسباب المتعلقة بفشل الجانب المسار التنموي و ما تبعه من سياسات اقتصادية انفتاحية تبناها النظام السابق خاصة من خلال اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوربي لتبادل السلع الصناعية المبرمة سنة 1995.
و بعد الثورة تم الاستمرار في نفس السياسات و بنفس الوسائل عن طريق الضغط من طرف مجموعة السبعة و الاتحاد الأوربي و إخضاع تونس مجددا و مجددا للبرامج و القروض المشروطة لصندوق النقد الدولي من خلال ارساء تدابير تقشفية للضغط على مصاريف الاستهلاك و التسيير و توجيه الاستثمارات و التدخل في الخيارات الاقتصادية التونسية.
بقلم جيهان مقني