قراءة نقدية تحليلية لعمل الفنان المغربي منير الفاطمي “التطور أو الموت”
تمثل الفنون البصرية فصلا مهمّا من فصول المشهد الابداعي بالعالم العربي وعلامة من علامات المعاصرة الثقافية وخاصة في ما يتعلق بالصورة الفوتوغرافية وقراءة خطابها ومدلولاتها السيميائية التي تنهل منها رهانات التغيير والتعبير من خلال مقومات الصورة البصرية وسلطتها الجماليّة في توجيه الخطاب البصري فالصورة اليوم هي جهاز متكامل حامل رؤية للعالم مستبطن لنظرة الفنان للأشياء من حوله كما يتجلي ذلك في التجربة الفنية لمنير فاطمي من خلال احتمال صورة المرأة في فنه لمفهوم الموت والتطور في الآن نفسه من خلال ملامسة بديعة لقضية ثقافة الموت في ظل موت الثقافة وضرورة الثورة علي واقع تسوده ثقافة التفجير والخراب بديلا من المعرفة والكتاب.
فما دلالة التطور؟ وما دلالة الموت في عمل منير فاطمي؟ وماهي الأبعاد الرمزية لصورة المرأة التي تدير حول خصرها حزاما ناسفا ومجموعة من الكتب؟
وكيف يمكن للصورة اليوم أن تكون حاملة لمضامين جماليّة محفزة لهمم الشعوب للانعتاق من التخلف والأفكار البالية الممثلة عامل شد إلى الوراء؟
منير الفاطمي فنان من أصل مغربي، وُلد بِطنجة سنة 1970، ويعيش الآن بباريس العاصمة الفرنسيّة. تخرّج من معهد الفنون الجميلة بالدّار البيضاء بالمغرب سنة 1989، ومن معهد الفنون الجميلة بروما، إيطاليا سنة 1991، وقد تلقى تكوينا جعله يُلِمّ بشتّى أساليب الفنّ التّشكيلي خاصّة منها النّحت والرّسم. وهو علامة في تاريخ الفن المغربي وهذا الفتى الواعي سياسيا منسجم مع مستجدات عصره عبر دوره الابداعي الذي يترجمه في ممارساته التشكيلية بأشكال بصرية مختلفة متزامنا مع مستجدات التحولات الفكرية والاجتماعية والسياسية وما تشهده المنطقة العربية من صراعات وحروب وفتن داخلية ،فالصورة المنهمرة علينا عبر قنوات التلفاز والانترنيت هي صور الخراب والموت صور تبرز الإنسان في هيئة وحشية كيف لا والإنسان يقتل أخاه الإنسان دون شفقة أو رحمة حتى بات يغرق في مستنقع العنف علي حسب تعبير “هوبز”.
لا بد من تفكيك المصطلحات في تحليل عمل فاطمي “التطور أو الموت” حتى تكون المنطلقات مبنية علي المعني الظاهر والخفي من معاني الكلمات ومقاصد الفنان ومرتبطة بالعمل والعنوان.
التطور هو اصطلاحيا التحسين وصولاً إلى تحقيق الأهداف المرجوة بصورة أكثر كفاءة ويعني التغيير أو التحويل من طور إلى طور وتعني كلمة تطور “تحول من طوره” تعني كلمة “التطور” التغير التدريجي الذي يحدث في بنية الكائنات الحية وسلوكها. ويطلق أيضاً على “التغير التدريجي الذي يحدث في تركيب المجتمع أو العلاقات أو النظم أو القيم السائدة فيه”
يمثل الموت محورا هامًا في الوجود الإنساني وهو من الموضوعات المثيرة التي تدور في فلك الديانات والفلسفة والفن و الموت المتعارف عليها يعني انفصال النفس عن الجسد، بمعني أن يظل الجسد بمفرده، و تكون النفس أيضا مستقلة عن الجسد و قائمة بمفردها.
في حين يفسر سقراط الموت تفسيرا عقليا في محاورة ( الدفاع) فيقول: “الميت يكون علي أحد حالين إما أن يصبح عدمًا و لا يكون له إحساس كما هو الحال في حالة النوم، و إما بحسب ما يقال أنه يحدث تحول و هجرة للنفس من هذا المكان إلي مكان آخر. فالموت في محاورة الدفاع هجرة النفس من الحياة الدنيا إلي الحياة الاخرة.
ومن هنا تتأتي أهمية أعمال فاطمي في محاولة تشكيل عمله من هموم الواقع كردة فعل علي أعمال العنف والإرهاب الذي يقطع جسد الوطن العربي وينهل فيه “ساريا كسريان” النار في الهشيم ومواجهة التأثير البصري لوسائل الاعلام التي غذت أبصار المشاهدين بألوان الموت والقتامة، وهي قتامة صور الدمار والحرب وأشلاء الجثث المنشورة في الشوارع تحول من خلالها العالم الي صورة تكعيبية فوضوية حزينة متجليا في عمل التكالب علي الخبر المصور في الحروب وبالتالي أراد فاطمي من خلال عمله حماية وعينا الفكري وفتح زوايا النقد داخله لتفكيك هذه الصور المتشكلة من كل جوانب حياتنا اليومية.
إن النظر إلى عملية التخيل الفني لصورة النساء المكبلين بحزام ناسف من الكتب نفسها هي عملية تقديم صور بصريّة أساسا ويترتب عن ذلك خلط بين الصورة والمراجع المكتنزة في البنية الذهنية. من هنا يمكننا التعمق أكثر في معاني الصورة وذلك من خلال تحديد أصلها أو كيفية وجودها، فإن كل شيء مصور له صورة رمزية وذهنية في عقل الفنان أي توجد علاقة بين المرجعية الفكرية والشكل داخل الصّورة حيث وضع فاطمي حزاما ناسفا رمزيّا يتمثّل في مجموعة من الكتب يرتبط بعضها ببعض بأسلاك كهربائيّة تغطّي خصر النساء في الصورة لإثارة الدهشة لدي المشاهد العربي بصفة خاصة والمتلقي الانساني عموما معلنا عن تفجير الوعي الزائف في تبرير الهدف، بتفجير الكتل الجسميّة حيث يسخر فاطمي من معتنقي الأفكار المتطرفة ويدعوا المتلقي الي إعادة النظر في الواقع المأزوم بمصالحة مع الكتاب والعلم والخروج من الدائرة المظلمة الي إعلان عصر الأنوار.
فهذا العمل الفني هو ممارسة تستند إلى جملة من التأثيرات البصرية والحسية المادية التي عايشها الفنان وجملة من التراكمات الذاتية اهتم فيها بالمضمون وليس بالشكل، ولهذا يبدو عمله منبعاً فنياً لاكتشافات تشكيلية رمزية لا نهاية لها، تحمل المضامين الفكرية والانفعالية التي تحتاج إلى ترجمة من المتلقي، كي يدرك مغزاها حسب فكره ورؤيته للعمل الفني وللواقع.
لكنّ الإشكال الذي يطرح نفسه هنا ،هو علاقة رمزية المرأة والكتب بالفن و البناء التشكيلي للصورة ، فما هي دلالاته السيميولوجية وأثرها في جمالية الفعل الفني؟
تناول محمود درويش المرأة في شعره باعتبارها الأرض والوطن وبوصفها رمزا للعطاء فالوطن والمرأة لا ينفصلان فهي إنسان وكائن يحمل كل قيم الحضارة و هيمن تمدّ الآخرين بالإيمان و القدرة على الإنجاز و الإبداع.
ما الذي ينزع الجلد عني.. ويثقب عظمي؟
ما الذي يجعل القلب مثل القذيفة؟…
غير حزن المصفد حين يرى
أخته.. أمه.. حبه
لعبة بين أيدي الجنود
وبين سماسرة الخطب الحامية
فيعض القيود ويأتي
إلى الموت.. يأتي
إلى ظل عينيك.. يأتي
فالنتيجة التي يمكن أن نستخلصها في شعر درويش هي الصورة الشعرية التي ضمنها صورة المرأة وهي علاقة العاشق بالوطن (الأم- الأخت- الحبيبة) إذا فاختيار “فاطمي” في عمله التطور أو الموت لثلاث نساء لم يكن اعتباطيا بل بين من خلاله التصاقه بأمه, وحبه لحبيبته, وخوفه على أخته كلها مشاعر تمثل موقف محمود درويش المتمسك بالأرض والعرض والوطن. فامرأة محمود درويش تمثل رمزا للوطن و الانتماء وهي غير امرأة نزار قباني التي تمثلها في صورة الأنثى التي تحبه مما أحدث فرقا في تاريخ كل شاعر منهما.
ليخطوا الفنان التشكيلي منير فاطمي خطي درويش في الدفاع عن الوطن الجريح يتناول المرأة في عمله من خلال القيم الموجودة رمزا وإنساناً وجمالا، ففاطمي جزء لا يتجزأ من القضية العربية والإنسانية.
فصورة المرأة في عمل فاطمي تختزل تلك المرحليّة وذلك التحول من التلقين والتقليد إلى الابتكار والتعبير الذاتي أي من صورة نساء الحريم ثم النساء الملهمات والارستقراطيات والعاريات إلى الرمز والهوية والوطن والحرية فتحولت بذلك من الجسد إلى الرمز ومن مجرد مثال ملهم إلى عنصر فاعل في العمل له حسّه وأبعاده وقيمته الفنية وتساؤلاته وإشكالاته وكيانه، ننظر بقليل من التأمل والتفهم والتعقل الي الخطاب البصري الذي حمله الفنان وإلي الصورة الرمزية باعتبارها حمّالة أوجه فكرية في نقد فاضح وخطاب بصري مضاد ومناهض لخطاب صورة الموت والحرب التي تنقلها لنا شاشات التلفاز عبر القنوات الفضائية العربية والعالمية محملة بكل أشكال الموت والخراب والدمار بقتامة ألوانها وبشاعة أحداثها.
فما نشهده اليوم من أحداث عنف وقتل وتقتيل متسارع بقدر تسارع التقاط الصور والإبحار علي الشبكة العنكبوتية لا يدفعنا إلي التفاؤل بمستقبل الإنسانية جمعاء ، فالحرب والجوع والتشرد والعجز والحرمان بمعجمها المغبون وبإطلال ظلامها الفاحش هي حالة مرضية لن تكون بها الإنسانية بخير فعمل التطور أو الموت لفاطمي يختزن قدر عظيم من التمرد وهو ترجمة للفعل الانساني المتطور ونوع من جمال الفن المعاصر الذي لا يستحضر الروائع والأيقونات ،بل يضع العمل الفي في مساره التاريخي المتطور ضاربا في عمق هموم ومآسي الانسان المعاصر ليخرج من قيمة الوساطة التي يؤديها العمل الفني الي مختبر تمتزج فيه عدة قوي استلهامية لا تكف عن الحركة وتمتزج بالوقائع المادية والروحية أمام هذا الهذيان الهستيري الفضائي والرقمي الذي شوه نظرتنا للأشياء وطمس بصيرتنا ببصرنا المشوه ومع ما يشهده العالم من تطور علي المستوي السمعي البصري أصبح المشاهد يشعر بوجوده في كل مكان من أمنا الأرض وهو ما سهل انصهاره في اليومي معبدا طريق غبنه وغربته الوجودية ليعلن حلول الفراغ الروحي والعقلي نتيجة احتلال ثقافة بصرية جديدة وجهت وعيه وقيدت قدراته.
في عمل فاطمي يمكن لنا أن نتحدث عن عمل تنصيبي رقمي إن صح القول وهي تنصيبه رقمية تعبر عن قيمة تعبيرية تقدم الفكرة وتعني بالمعني أكثر من الجمال والشكل في مواجهة عالم حائر وتائه بالمعني الوجودي للكلمة ففاطمي أراد هدم الصورة التي تفوح منها رائحة الموت والخراب في خطاب بصري مقلوب داعيا في عمله الفني إلي التفكير في الحياة والوجود وهو ما يفسر حضور الكتب في عمله الفني بتأليف العقل بمخيلة الفنان فيخاطب عامة الناس في الوقت الذي يكون فيه نخبويا، ويعالج قضايا و يكون ملتزما في الوقت الذي يكون فيه مفرغا من المعاني و الدلالات .
بقلم : فاخر بن عبد القادر