كتابة تاريخ الحركة الوطنية أول طريق الجمهورية الثانية : بقلم حاتم الكسيبي
عبث المستشرقون بتاريخ الحضارة العربية الاسلامية فوصفوا مجدها بالقرون الوسطى التي غاب فيها العلم والتشييد ثم وضعوها في خانة انتشار المجاعة والأوبئة و اشتداد الحروب. كتبوا تاريخنا بحبر دنس حفظته كتبهم و حفظناه في البرامج المقررة ابان الاستقلال حيث كانت الوجهة الى المستعمر فهو الملهم و هو بواب الطريق نحو النمو. عبثت أيضا نخبة تونسية بتاريخ حركتنا الوطنية و انتفاضة الشعب التونسي على فرنسا الاستعمارية فطمست أحداثا وحقائق وأظهرت أخرى ثم هرعت الى برامج التعليم و وسائل الاعلام لبليغ ما خطته اقلام الكتبة حتى خاله التونسي الحقيقة المطلقة التي لا تستحق الدليل و لا تقبل التفنيد.
هل يعرف التونسيون شهداء الوطن و مناقبهم ؟ هل يعرف عموم التونسيين أحداث انتصاب الحماية والمقاومة الشعبية التي حاولت ردّ العدوان؟ هل هي العشائر المنتشرة في الداخل أم المدن الساحلية المسوّرة أم كليهما؟ ما موقف علماء الزيتونة الذين يمثلون السلطة “العلمية” والقضائية في ذلك الوقت من قتال الغزاة ؟ هل استكانوا أم هبّوا الى الشعب ليسندوه؟ ما كان موقف “المخازنية” أصحاب الضيعات الشاسعة الذين رغبوا في الآلة المتطورة الوافدة من الغرب والتي تكدس الأرباح؟ من هو عبد العزيز الثعالبي شيخ الحركة الوطنية الذي تعرض للاغتيال عديد المرات بإيعاز من سلطات الاستعمار؟ من هم الفلاقة وكيف اجتمعوا في السباسب وعلى سفوح الجبال يكيدون المصائد لجحافل المستعمر فيوقعون به أشد الخسائر؟ أين تركزت ثكنات المستعمر لإحكام السيطرة على البلاد ولكبح جماح المقاومة؟ لماذا انفصل الشق السياسي على شق المقاومة حتى كاد له و اباده على آخر رجل؟ عديدة هي الأسئلة التي تجول في خاطر كل تونسي استغرب من اختزال تاريخ الحركة الوطنية في بضعة اسماء أو في زعامة واحدة.
يقرّ أغلب التونسيين أنهم لا يعرفون تاريخ حركتهم الوطنية التي كتبت كما اتفق حسب الأهواء و يظنّ أغلبهم أنّ الرجوع الى هذا الأمر قد يكلّف البلد متاعب جديدة و يدخلها في متاهات كتلك التي حدثت ابان الثورة فينحدر الحال الى الأسوأ و ترتفع النعرات و ينادي كل بنصيبه ثم يكثر اللغط والافتراءات والتكذيب و التكذيب المضاد. هنالك يومئ البعض بضياع الحقوق وخسارة البلاد بصيص الحرية حين تطالعنا الأخبار بما مضى من اغتيالات و خيانات و ركوب على الأحداث وسمسرة مع المستعمر الذي قطعا حاول دراسة المجتمع التونسي فعرف كيف يغرس أفكاره وتبعيته الثقافية و من ثمّ ضمن استمرارية مصالحه التي ترعاها أياد تونسية. هنالك نعرف كيف استأثر بالملح والنفط و الفسفاط وكيف عمّم الفرنسية على التعليم وكيف ضرب التكوين الزيتوني وكيف انتهج اقتصاد السياحة بعد أن ركن الفلاحة التي اشتهرت بها تونس لمّا كانت الخضراء وكانت مطمورة روما من قبل. ليس الأمر عداء لفرنسا وقد كانت بوتقة الحضارة والتقدم لفترة مزدهرة من القرن الماضي ولكنه ايمان بأنّ التقدم لا ينحصر عند قومية او جنس بعينه بل هو ماض في تنقله بين المجتمعات تحمله الرياح يسارا ويمينا كيفما شاءت الأقدار.
لعل هذه الخطوة المنسية و التغاضي عنها سبب في تأخير التحاقنا بركب الدول النامية اذ هي الكفيلة بدفع روح المواطنة الى أرفع المستويات و تجسيد الانتماء القطري لهذه الرقعة التي كادت تفقد خضرتها بعد ان افتقدت حب العمل و الجد في طلب القوت. لقد بقيت الدولة محصورة في “ملاّكة وكرّاية” كما قيل فاستأثرت جهات بعينها وعائلات و مصاهرات بالقرار والمال والثروة وبقيت عديد التجمعات الريفية وبعض الحضر على هامش الدولة لا يعرفون عنها غير العلم الأحمر الذي عبثت به الرياح و نال من حمرته لهيب الشمس. لعل الدستور الجديد الذي نال اعجاب الدول المتابعة لأحوالنا و الذي انتقدته عديد الأطراف الوطنية لشعورها بالضيق من مشاركة عموم الشعب السلطة و اخذ القرار، ما زال حبرا على ورق يتيه فيه المنتسب لهذا الوطن العزيز على قارب الحرية والحقوق والواجبات ولكنه يستفيق جرّاء قرع اجراس الارهاب والفوضى والفقر والعجز المالي والفساد المستشري والتهريب والرشوة والمحسوبية وغيرها من الأمراض الموروثة عن الجمهورية الأولى.
الوطن يتسع للجميع و يتساوى فيه المواطنون أمام القانون وفي الحقوق والواجبات كلمات رنانة تطرب الآذان وتسعد القلوب و تبشر بمستقبل واعد و ارتفاع لنسق النمو اذا ما تصالح الجميع مع الماضي و كتب تاريخ الحركة الوطنية على الأقل وفق معطيات دقيقة و صادقة لا يشوبها التدليس و تغيير الحقائق فيسعد كل بتراثه و استماتة أجداده في الذود عن الوطن و السعي لطرد الاستعمار والتخلص من كماشاتيه الاقتصادية والثقافية التي لا زالت تكسر ضلوع الوطن و تحرض هذا على ذاك و تكيد المكائد حتى يبقى الوطن سوقا اسبوعيا لها تبيع لنا ما لم تقدر على بيعه في باقي الأسواق. لن تنجح تونس ما دامت تتهددها جراحات الماضي الذي لم تندمل فهذا زيتوني وذاك يوسفي و هذا بورقيبي و عديد من المتسكعين بين هؤلاء الأسماء اللامعة تبحث عن المصلحة الذاتية والربح الوفير على حساب الشعب الكريم.
بقلم حاتم الكسيبي