القراء يكتبون : الرجاء النهوض بمتحف باردو و البحث عن حلول لأزمة الإدارة الحاليّة
تضطرّنا الحياة أحيانا أن نستقرّ بعيدا عن الوطن و لكنّه يظلّ ساكنا فينا و نحمل عنه أطيب الذّكريات و نرسم عنه أجمل اللوحات حتى نخفّف من ألم فراق الأهل و الأصدقاء. و يهزّنا الشوق و الحنين إليه كلمّا سنحت الفرصة وتكون فرحة العودة بحجم هذا الوطن و أكبر خصوصا و نحن نعود لحضنه بعد غياب دام أكثر من 30 سنة.
أخيرا تسنّت لي الفرصة في الصيف المنقضي كي أزور أحد أهمّ معالم بلدي ألا وهو متحف باردو. و اصطحبت معي لاكتشاف هذا المعلم زميلة أمريكية كنت قد استضفتها في نفس تلك الصّائفة لزيارة تونس، و هي باحثة دوليّة تهوى الفنون و خاصّة موسيقى الجاز و الفسيفساء. و قد قبلت السيّدة دعوتي رغم التّضييقات الأمنيّة و التهديدات الإرهابيّة و عبّرت عن رغبتها الشديدة في زيارة المتحف لرؤية لوحات الفسيفساء الفريدة من نوعها و ليتها لم تقبل.
و في أواخر شهر أوت 2015 قمنا بزيارة المتحف و ابتدأنا جولتنا بقاعات الطّابق الأرضي حيث استمتعنا بمجموعة مذهلة من الفسيفساء الحائطية و الأرضية و التقطنا عديد الصور التّذكاريّة.كان المرشد السياحيّ يجيد اللغة الانجليزية إلى حدّ مقبول و ملمّا بالأحداث التاريخية المتزامنة مع مختلف اللوحات و التماثيل و القطع الأثرية بالمتحف. و انتقلنا إثر ذلك بالمصعد إلى الطّابق العلويّ، و هناك أحسسنا تدريجيّا باشتداد الحرّ و سرعان ما أصبحت الجولة غير مريحة على الإطلاق. و باستفسارنا عن نظام التكييف، اندهشنا لعدم وجود نظام تكييف بالمتحف.
لقد سبق و زرت في أسفاري عديد المتاحف سواء بأوروبا أو أمريكا أو دول الشرق الأوسط و ما أذكره أنّ كلّ المتاحف التي قصدتها كانت مجهّزة بأنظمة التكييف. ثمّ استدرك المرشد السياحي قائلا أنه توجد حاليّا منطقة في طور الانجاز في المتحف مزوّدة بالمكيّفو الأغلب على الظن أن التبريد خصّص لفائدة العاملين في أشغال البناء و التهيئة حتى يتمّوا أشغالهم في ظروف جيدة. و رغم استحساني لهذه اللّفتة الإنسانية فإنّه لم يسعني التّغاضي عن التّفكير في الزوّار القادمين من وراء المحيط الأطلسي لاكتشاف مجموعة فسيفساء فريدة في العالم و التّساؤل بخصوص مستوى الخدمات في متحف بأهميّة متحف باردو. و رغم محاولتنا استكمال الجولة فإنّ ضيفتي ضاقتذرعا بالحرّ و احمرّ وجهها من شدّته ممّا اضطرّنا في آخر المطاف إلى تعليق تجوالنا بعد أن عبّرت السيّدة بأسى شديد عن استحالة المواصلة في هذه الظروف.
اتجهت عندها إلى مكتب الاستقبال و طلبت التحدّث إلى مدير المتحف أو نائبه على الأقلّ فعلمت من سيدات الاستقبال أنهما متغيّبان بحكم أن يوم الأحد هو يوم عطلتهما و بالتّالي لم يكن بوسعي إيصال ملاحظاتيإلى أي جهة مسئولة في ظلّ غيابها. فطلبت آنذاك تدوين انطباعاتنا أنا و ضيفتي، فسلّمتني السيدات في مكتب الاستقبال دفتر ملاحظات ينطوي على استمارات ذات ثلاث نسخ من ورق الكربون.
و حين بدأت بقراءة محتويات الاستمارة تفطنتإلى أنّ البيانات المطلوب تعميرها تستهدف معلومات شخصيّة مثل اسمي و جنسيتي و عمري و رقم هاتفي و حتّى اسم النزل الذي أقيم فيه و رقم الغرفة !!! استغربت بشدة من هذا الأسلوب الإستنطاقي للاستمارة و انتابتني صدمة ثقافية! ففي معظم أنحاء العالم، غالبا ما تكون استمارات الملاحظات و التشكّيات خفيّة الهويّة إلا إذا قرّر الشّخص الإفصاح عنها؛ و في بلادي يحصل العكس تماما. و رغم غربة دامت قرابة ثلاث عقود عن الوطن، فإني كنت اعتقد أن تونس مواكبة للمعايير الدولية و لم أفهم ماهيّة المقاييس المطبقة حاليّا أو أسباب صياغة استمارة ملاحظات بأسلوب استنطاقي مماثل لم يتمّ تطويره إلى اليوم، لماذا لم نسمع أي تشكيّات أو تنديدات أخرى بنقائص إدارة المتحف؟ ماذا عن الحامل الورقي لدفتر الملاحظات المتكوّن من ورق الكربون و ثلاث نسخ لكلّ استمارة؟ ألا يشكلّ هذا هدرا للموارد العامّة التي تشكّل حاليّا نقطة ساخنة في التتبّعات القضائيّةلاسترجاع ثروات الدولة؟
و قد شدّ انتباهي أيضا موقع المتحف المحاذي لمجلس نواب الشعب ممّا دفعني للتساؤل بخصوص زيارة أعضاء المجلس لهذا المتحف و انطباعاتهم عن الوضع الحالي بالمتحف؟ و إذا ما ثبت أنهم قد قاموا فعلا بزيارة ميدانية فلماذا بقيت الأمور التنظيمية و المعايير المعتمدة متأخرة و غير مواكبة للمقاييس المعتمدة بالمتاحف العالمية؟
حتما بقيت عديد الأسئلة معلّقة و اضطررت أنا و ضيفتي بأسى شديد إلى قطع زيارتنا دون الاطلاع على جميع مكنونات المتحف و لكن ليس من دون تدوين تعليق مجهول الهوية عن مدى استيائنا و عدم استحساننا للظروف الغير ملائمة.
الرجاء النهوض بمتحف باردو و البحث عن حلول لأزمة الإدارة الحاليّة
لفت انتباهي خلال جولتي المقتضبة في المتحف عديد مظاهر سوء التسيير على صعيد الخدمات المقدّمة و مشاكل المحلّ التجاريّ. فمكتب الاستقبال مثلا، يجمع عديد العاملين كالصرّاف و المترجم و عامل المكتبة في نفس الفضاء دون أي تنظيم أو تقسيم واضح لكلّ وظيفة لمعرفة من المسئول عن ماذا. و لذلك اضطررت في كلّ مرة للسؤال عن العون المكلّف بقبول معلوم الدخول أو مقتنيات المكتبة أو المحلّ التجاريّأو مصاريف المرشد السياحي، الخ… كان بالإمكان تجنّب عناء الاستفسار المتكرر، لو توفّرت لافتات توضيحيّة عن مختلف الخدمات. و دفعتني هذه الملحوظة إلى التفكير في أسباب غياب أدنى مستويات التنظيم بمكتب الاستقبال في المتحف؛ ألا تقوم الوزارة بتدريب العاملين بالمتحف؟ ألا يزور المسئولون و المدراء دولا أجنبية و يتعرّفون إلى كيفيّة تطوير طرق العمل بها؟ هل تعمّدت إدارة المتحف تهميش مكتب الاستقبال و عدم تنظيمه بطريقة محكمة و متطورة؟
اعترضتني ظاهرة أخرى من مظاهر التأخّر في هذا المتحف وجب التوقف عندها و هي طريقة دفع المقتنيات أو مصاريف الخدمات. مازلت اذكر أيام دراستي بالولايات المتحدة الأمريكية حيث كانت مظاهر التوجّه الحثيث في أواخر الثمانينات لتعميم استعمال البطاقة البنكية لدفع مشتريات لا يتجاوز سعرها الخمس دولارات! و كانت هذه السياسة تقتضي أن تقبل المحلات التجارية الدفع الالكتروني لمبالغ صغيرة قد لا تتجاوز الدولارين فقط و ذلك للحدّ من استعمال النقود السائلة في المتاجر و المقاهي و غيرها من المحلات. و ما جرّني للحديث عن هذا الموضوع هو ما عبّرت عنه زميلتي عندما رغبتفي استعمال بطاقتها الالكترونية ليبقى متحف باردو في سجلاتها كتذكار عن زيارتها فأصابتنا خيبة أخرى عندما علمنا بغياب صرّاف آلي للدفع الالكتروني.
و اتجهنا بعد تعليق جولتنا في أجنحة المتحف إلى المحلّ التجاري لاقتناء بعض التذكارات ففوجئنا بعدم توفّرها. شعرت آنذاك بالذهول، كيف تنعدم التذكارات في متحف ذي صيت عالمي كهذا؟
و لما استفسرت عن الأسباب قيل لي بكلّ بساطة أن المحلّ المزوّد للمتحف قد أغلق لتقلّص الطلب منذ الثورة و خاصة بعد الهجوم الإرهابي في باردو. فاكتفينا باقتناء بعض الكتب الخاصة بمجموعة الفسيفساء و بقرطاج، في ظلّ غياب مجموعة غنية من المؤلفات كان يفترض بها التواجد بمثل هذه الفضاءات مثل بعضالكتب عن مدينة صفاقس التي توّجت مؤخّرا عاصمة للثقافة العربية 2016.
و أعيب في هذا الصدد على السيدة المسؤولة عن المكتبة عدم تفاعلها معنا، إذ أنّها لم تتكبّد عناء التّرحيب بنا أو الحديث عن مجموعة الفسيفساء أو حتّى إرشادنا إلى المعروضات المناسبة و لولا عامل الصّرافةالذي تقدّم من محلّه للاهتمام بنا و الاستجابة لاستفساراتنا لكانت خيبتنا مضاعفة. و لقد دفعني سلوك هذه الموظفة إلى التفكير في المقاييس التي اعتمدت لتوظيف هكذا موظفة الصامتة لتكون مسؤولة عن المكتبة!
و في آخر المطاف و قبل مغادرة المتحف، فوجئنا بعدم تواجد صندوق للتبرعات. يجب الاعتراف بأن مبادرة مجانية الدخول بالنسبة للتونسيين المقيمين بالخارج مشجّعة للغاية و لكن قد يرغب البعض منّا في التبرع بالمال لدعم أشغال الترميم و التحسين بالمتحف؛ و من المؤسف أن لا تكترث الإدارة الحالية لمثل هذه الحوافز و أن لا تشجع على المساهمة في الحفاظ على الموروث الحضاري بالمتحف. قد لا يكون هذا التقصير في تنظيم المتحف خطأ الإدارة الحالية وحدها، و قد تكون للنظام السابق يد فيتهميش الفنون و الثقافة؛ و لكن يصعب استيعاب أسباب تأخّر الإدارة الحاليّة و عدم تماشيها و المقاييس العالمية في مجال الخدمات المقدمة في المتاحف العالمية. من المؤسف أن تكون حال المتحف على ما هي عليه و هو يتواجد حذو مجلس النواب الذي يضمّ ممثّلين عن الشعب لطالما وظّفوا الثقافة في حملاتهم الانتخابية و تأثيث خطابتهم الدعائية.
الرجاء النهوض بمتحف باردو و البحث عن حلول لأزمة الإدارة الحاليّة
الدكتور ماهر بهلول
نبذة عن الكاتب
الدكتور بهلول متحصّل على شهادة الدكتوراه في علم اللغة من جامعة كورنيل بنيويورك في الولايات المتحدة الأمريكيةودرجة الماجستير من جامعة السوربون من باريس (3) بفرنسا. قام خلال سيرته المهنية بتدريسعدد كبير من برامج الدراسات العليا و مقرّرات مرحلة الدرجة الجامعية الأولى بالولايات المتحدة الأمريكيةو شمال أفريقيا والشرق الأوسط. حاليا، يعمل د. بهلول بصفته أستاذا مشاركا متخصّص فياللغة الإنجليزية و اللّسانيّات في الجامعة الأميركية بالشارقة ﴿الإمارات العربية المتحدة﴾ حيثيقوم بتدريس مقرّرات اللّغة الأنجليزيّةو اللّغة الأنجليزية لغير الناطقين بها (TESOL) .