رجل بنفسجي .. قصة قصيرة بقلم أشرف العذار
لم يكن يصدق ما يرى ويسمع، جموع هادرة من البشر تتجمع بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تنادي و بأعلى صوتها “خبز و ماء و بن علي لا.. الشعب يريد إسقاط النظام.. ديقاج.. ديقاج” في تناسق عجيب و بنسق تزداد وتيرته مع مرور الوقت .
كان وقتها يطل من نافذة مكتبه بدار التجمع الدستوري الديمقراطي و هو في حالة ذهول مطلق على شارع خاله لن يكون إلا مواليا ومساندا للنظام ..
أجن الناس؟!
ألا يعلمون بخطورة ما يقومون به؟!
” ياخى ماعادش العباد تخاف؟!”
أسئلة كثيرة كان يطرحها على نفسه وعلى من حوله و لا يلقى لها جوابا ولا تفسيرا وهو ما يزيد في حيرته وأسئلته.. منذ متى كان يجرؤ الناس على الهتاف بشعارات لا تكون موالية للنظام ؟؟ بل منذ متى كانوا يسيرون في مظاهرة ؟! اللهم مظاهرة من تنظيم” التجمع” معلومة المقصد و الغاية، يخرج فيها التجمعيون براياتهم و ألوانهم البنفسجية الزاهية، إما للتأييد أو المناشدة و هم يهتفون “يحيا بن علي.. يحيا بن علي.. بن علي 2009.. بن علي 2014..”
ولكن أين هم الآن ؟ أين تبخروا ؟ أين طبلهم و مزمارهم ؟ أين شباب التجمع ؟ أين شباب التغيير؟
ثم من هؤلاء الذين يهتفون بسقوط النظام .. ومن أين جاؤوا.. و كيف اتفقوا ليجتمعوا بمثل هذا العدد المهول وبمثل هذه الكثافة.. ماذا يريد هؤلاء الشباب ؟؟ أليسوا الحل وليس المشكل كما يقول السيد الرئيس؟! لماذا إذن يتسببون في كل هذه الفوضى.. لماذا يريدون زعزعة الأرض من تحت أقدامنا.. هل هؤلاء هم جماهير الملاعب الرياضية و عشاق “هيفاء وهبي” و” نانسي عجرم” ؟!
أسئلة مربكة تهز كيانه وتعصف بذهنه، لقد خابت كل توقعاته و تخميناته.. لم يهدأ الناس.. ولم يكن غضبهم سحابة صيف عابرة.. بل واصلوا هيجانهم و عصيانهم..لم يعودوا يخشون “هراوات البوليس” و قنابل” الكريموجان” المنهالة علي رؤوسهم، بل لم يعودوا يخشون حتى الرصاص الحي القاتل للأمل و الحلم و الحرية، كما لم تنفع خطابات الرئيس، ولم تجدي توسلاته ووعوده في تهدئة الثائرين والمطالبين بالحرية و العيش الكريم، بل بالعكس كانت كمن يذكي جذوة نار مشتعلة بمزيد من الحطب.
الوقت يمر و الناس لا يزالون يتوافدون علي شارع الحبيب بورقيبة و سائر شوارع العاصمة بأعداد خرافية وكأنهم علي موعد وهم يهتفون رافعين راحات أياديهم الي أعلى كأنها السيوف ” تونس تونس حرة حرة و التجمع علي برة “. أفواههم التي كممت ردحا طويلا من الزمن آنعتقت، والخوف الذي استوطن كيانهم زال و ولي..
يخترق هتافهم سمعه فيربكه ويرعبه ويرغمه على أن يأخذ منديله ليمسح سيل العرق البارد المتصبب من صلعته و سائر جسده. يرتمي علي كرسي مكتبه الوثير منهك القوي، خائر العزم، مسلوب الإرادة وذهنه لا يفتأ يرسم له صورا سوداء شديدة القتامة.. إنها النهاية، سيسقط الرئيس و من ثم النظام.. سيفقد هو منصبه و وجاهته، ستصادر سيارته الفارهة و جميع عقاراته و يزج به في السجن.. لن يمشي مختالا بين الناس بعد هذا اليوم، فلن يعودوا يحنون له رؤوسهم تملقا و زيفا و طمعا.. لقد ولت أيام العز و الجاه و الجبروت..
ينتفض من مكتبه مذعورا و هو يصيح “لا لا.. لا يمكن أن يحدث كل هذا .. محال أن يسقط الرئيس.. محال أن يسقط النظام .. محال أن يطاح بصاحب القبضة الحديدية.. واهمون.. نحن لم نسرق ولم نظلم ولم نقتل.. أيادينا نظيفة.. لعن الله” الجزيرة” و”الفايسبوك” و” الانترنات منين دبت و هبت” .. أوغاد.. كلاب..
يهرع مجددا إلى نافذة مكتبه ليهوي ببصره على جموع المتظاهرين مدققا ومتفرسا وكأنه يبحث عن شخص ما.. يحاول أن يبدو هادئا و حكيما.. لكن أصواتهم الهادرة تأبى إلا وان تأسره و تمعن في اختراقه و اجتياحه بالكامل و كأنها الخناجر المميتة فيصيبه الضعف و الوهن و العجز..
يمرر يده علي صلعته البنفسجية التي ساهمت في إبداع المناشدات و الشعارات “التجمعية” الجوفاء، يستنجدها و يسألها الحل والمخرج من هذا المأزق، فلا يجد لديها إلا الشعارات الجاهزة المخملة في أعماق الوعي و اللاوعي على السواء ” الله واحد الله واحد بن علي ما كيفو حد.. بنعلي رئيسنا و التجمع حزبنا..” يستنكر ما جادت عليه به قريحته، فيتعاظم همه و يشتد ألمه ويكاد يسقط مغشيا عليه.. و لكنه يقاوم.. و يقاوم.. ويستبسل في المقاومة.. يخلع رباط عنقه البنفسجي و سترته البنفسجية ويمضي إلى الحمام و هو يترنح..
يأخذ حماما ساخنا عله يعيد إلى وجهه الشاحب حمرته المعهودة.. يحلق لحيته.. يهذب شاربه .. يقلم أظافره.. يرتدي بدلة جديدة.. يتعطر و هو يقول “لا خير إلا في تجمعي نظيف..لا خير إلا في تجمعي نظيف..لا للإقصاء..لا للتهميش “..
يغادر” دار التجمع” مسرعا.. يندس وسط جموع المتظاهرين ليهتف و بأعلى صوته
“الشعب يريد إسقاط النظام..
خبز و ماء و بن علي لا..
تونس تونس حرة حرة و التجمع علي برة..
محلا القعدة عل ميه و محلا الربيع محلا الثورة التونسية تضم الجميع… “
أشرف العذار / مارس 2013