الانتخابات الجامعية في صفاقس .. الثوابت والمتغيّرات : بقلم الاستاذ حاتم الكسيبي
منذ أيام، عاشت جامعة صفاقس على وقع انتخابات مديري الأقسام والعمداء و مديري المؤسسات وهي تستعد اليوم لخوض الحملات الانتخابية لمرشحي رئاسة الجامعة الأستاذ محمد عبيد (المدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس) و الأستاذ عبد الواحد المكني (كلية الآداب و العلوم الانسانية بصفاقس). انطلقت إذن الحملة الانتخابية لكلا المترشحين بمعية المرشحين لنيابتهم في نسخة جديدة وفق القانون المعدل و هو الذي يشرّع الى تقديم برنامج في الغرض يتمّ عرضه في جلسة علنية و يتقبّل فيه المرشح ومساعدوه أسئلة الحضور و يجدّ في الإجابة عليها. هي تجربة جديدة على جامعتنا و على الجامعة التونسية ككل إذ كان الأساتذة لا يعلمون للفائز برنامجا ولا يعرفون له صوتا أو طريقة لتعاطيه مع الأسئلة أو حكمته في إدارة الأزمات التي قد تحيط بالجامعة و مؤسساتها. كانت المسألة محسومة عند لوبيّات، متنفّذة في الجامعة و الوزارة و السلطة الجهوية، يشكّلها عادة عجائز الجامعة المتربعين على عرشها منذ عشرات السنين.
هكذا كان يبدو المشهد المقيت منذ سنوات عديدة قبل وبعد الثورة وهو الأمر الذي دعا القاعدة الأستاذية للمطالبة بدمقرطة الجامعة و تكريس مبدأ حرية الاختيار دون انقياد مفروض أو تهديد أو ترغيب عبر عديد الوسائل التي تصيب المطلع عليها بالدهشة والثبور فيصيبه الحنق ويعلم حينئذ مدعاة تأخر جامعتنا في الترتيب العالمي. حافظت جامعة صفاقس ككل مرة على عدد من الثوابت التي رسمتها السنون الطوال التي عاشتها منذ أن كانت تحوي بعض مؤسسات الجهة وتمتد إلى الجنوب بأسره لتغطي النشاط الجامعي.
الثوابت : تتمثل ثوابت المشهد الجامعي في صفاقس في شموليته لمختلف العلوم الصحيحة والاقتصادية والتكنولوجيا والآداب والفنون والطب، وان اختلفت المؤسسات التابعة بالنظر في حجم جسمها الاستاذي و في عدد الطلبة الآمّين لها. حافظت جامعتنا على انتشارها على الخارطة الجهوية فانحصرت في المدينة وضواحيها ولم تشمل باقي المعتمديات البعيدة رغم بلوغها سن الثلاثين. و يعتبر هذا التوجه نقطة سلبية تكرّسها السياسة المركزية و الجهوية بإيعاز من الجامعة نفسها فتبقى المدن المحاذية على حالها ولا تشملها التنمية.
من الثوابت أيضا احتفاظ المشهد السياسي بصوره داخل الجامعة فاشتغل بعض أهل العلوم الأدبية و التكنولوجية بالسياسة داخل جامعتهم و حوّلوها منبرا حزبيا تحت يافطة نقابية أو مناشط المجتمع المدني. فقد نجد مبررا لذلك قبل الثورة أين كان الصوت الحرّ مخنوقا و كانت الجامعة بوقه الوحيد ولكن تفاقم هذه الظاهرة بعد الثورة يدفع الى الريبة و يدعو الى مزيد من الانتباه. هنا تخصص مثلا رئاسة الجامعة المتخلية حيزّا هاما من عددها اليتيم من مجلة “أصداء الجامعة” للحديث عن النشاط النقابي و النساء الديمقراطيات و تغفل عن مشاغل البحث و الدرس والسكن و تطوير البرامج والتشغيلية و تحيين المسالك العلمية.
من الثوابت أيضا الاحتفاظ بطريقة تصعيد المدير أو العميد بعد تغيير طفيف في القانون القديم يسمح بموجبه لرؤساء الأقسام بالمشاركة في عملية التصويت. هكذا تجنبت الأطراف النافذة في صياغة القرار للوقوف ضد ديمقراطية الأغلبية التي قد تحث الجميع على العمل والبروز. نفتقد إذن نظاما يحفظ شفافية التصعيد و يحترم حقوق كافة الأصناف لتكوين المجالس العلمية ويحدّ من التعطش الى منصب الادارة والرئاسة و يبعد باب قضاء المآرب الشخصية والحزبية و ينقص من الحماقات التي ترتكب على قارعة الطريق ويراها الاستاذ فيكتفي بالحولقة وتلحظها الوزارة وتكتفي بالتغاضي وصرف النظر.
كما تحتفظ جامعة صفاقس بواقع نقابي مشتّت حيث نجد فرعا جامعيا ممثلا للأساتذة و منضو تحت راية اتحاد الشغل ونجد نقابيين آخرين منضوين تحت راية الاتحاد و لكنهم يشكلون هيكلا موازيا على صلة بالجامعة العامة. وتنشط في بعض المؤسسات تعدية نقابية تجمع بين “اجابة” الوليدة النقابية الجديدة و “اتحاد عمال تونس”.
المتغيرات: أبرز المتغيرات هي ما تشهده عديد المؤسسات من انقلاب على مفاهيم الطاعة والولاءات المصلحية أو النقابية أو الحزبية أو الايديولوجية اذ ساهم الاستقرار النسبي الذي يقوده التوافق المشهود في البلاد الى وقف الاستنزاف الايديولوجي واللعب بمقدرات الدولة التونسية والانطلاق في بناء الجمهورية الثانية. كل ذلك يربك لوبيات الجامعة التي جمعت بين بيع الشهائد و الديبلومات و الرحلات و البرامج التعليمية على المقاس و الساعات الاضافية المعلنة والغيرالمؤمّنة. تدفع الثورة اذن الى التسريع في فتح ملفات الفساد وكشف اللوبيات “العلمية” التي تشتغل في كل شيء دون العلوم فتمتع زيدا الاداري بمنحة بالخارج و تحرم عمرو الأكاديمي من نفقات طباعة بضع نسخ ملفه العلمي. اللوبيات باتت تخشى تشتت المصالح لا سيّما والتكنولوجيا الحديثة تحاصرها وتكشف ألاعيبها، فبين “البلاجيا” و جودة وسائل الاتصال ضاعت عديد المخططات وانكشفت الخطط المعدة للهيمنة على الجامعة.
لقد بات يحكم الجامعة نظام العجائز الذين رحلوا إلى التقاعد ولكنّهم يحتفظون بمناصب جد هامة لصناعة القرار و التبادل العلمي والبحثي رغم محدودية إمكاناتهم وارتباطها بطرائق و تكنولوجيات الماضي التليد. يحدّثني في هذا المضمار أستاذ تقدّم إلى القاعة المخصصة للاقتراع وقد طُلب منه تصوير ورقة الاقتراع قبل رميها في الصندوق لإثبات صدق نواياه في التصويت للّوبي المستكرش في تلك المؤسسة.
عديدة هي النواقص التي تحفّ بالقانون الجديد للانتخاب والذي يطبّق باحتراز شديد بعد أن تعددت الاستشارات وتوقفت العملية الانتخابية لمرتين انتخاب المجلس العلمي لكلية العلوم وانتخاب مدير معهد الدراسات العليا التجارية والتي عجّلت الوزارة بإنصاف المعنيين بالمنع فعرفنا مصدر الارتجاف و الإرباك و الارتباك. ستشهد جامعتنا حتما تغيرّات أخرى إذا ما شهد المشهدين السياسي والاجتماعي تغيّرات جذرية فيستقرّ منسوب الحرية و تستقرّ الهيئات الضامنة لمدنية الدولة و لدستورها الحديث.
بقلم الاستاذ حاتم الكسيبي، المعهد التحضيري للدراسات الهندسية بصفاقس