مهرجان صفاقس الدولي : حصيلة شهر من الجدل .. بقلم أحمد البهلول
أنا غاضب…هكذا…و بدون مقدّمات. غاضب لأني بقيت على مدى 3 أيّام أحاول تنقية ذهني من كلّ المؤثرات…و أستجمع أقصى ما يمكن من الموضوعية و الحياد لأكون أوّل من يكتب مقالا تقييميا عن الدّورة 39 من مهرجان صفاقس الدّولي…حتى جاء لطفي بوشناق فأسْكَرَني و أذهب عقلي…و ألزمني السكوت ساعات حتى تذهب الثمالة عنّي…و تكفّ مقاماته و جواباته و قراراته عن تمييل و إرقاص قلمي…تعوّدت أن يكون الختام مسكا…أمّا أن يكون سحرا…فهذه لا أجد لها تفسيرا إلاّ على مذهب جماعة ” ڤاتلك ڤاتلك “…الجمّوسي و جماعته تعمّدوا برمجة بوشناق في الختام حتى تنعقد ألسنة النقاد…فلا يجدون ما يعيبون على المهرجان وإدارته
أمّا و قد ذهبت السّكرة…فقد حان وقت حضور “المداينيّة”…و الوقوف على مفاصل و تفاصيل و حقائق الدّورة 39…واحدة من أكثر الدّورات إثارة و جدليّة في تاريخ مهرجان صفاقس الدّولي…أمّا الذين ينتظرون مدحا و تبييضا، فذلك “دقيق” لا ننتجه و لا نتداوله في سوقنا…و أمّا الذين يريدون تجنيا و شيطنة…فمنطق “نطيح الأكباش” لا يستهويني و تصفية حساباتهم مع مدير المهرجان و فريقه لا تعنيني.
أذكر أني خلال شهر جوان حين كنت أشارك في إدارة حوار بين الهيئة السابقة للمهرجان و بين المندوبية الجهوية للثقافة على إذاعة الدّيوان…كان الانطباع لديّ أن صائفة 2017 ستكون بيضاء ثقافيا…و أن تعيين إدارة جديدة تكون قادرة على تأمين دورة مكتملة هو ضرب من التعجيز أو الجنون…و كنت قد حدّثت نفسي حينها أنّ “مخزن مسكّر و لا كرية مشومة”…اليوم و نحن نودّع شهر أوت و فصل الصيف و المهرجانات…لا المخزن بقي “مسكر” و لا “الكرية” كانت “مشومة” لدرجة الإحباط الذي يحاول البعض الإيهام بها…و عليه، فشكلا و قبل الدّخول في مضامين و تفاصيل العروض، أعتقد أن إعداد دورة في مدة 25 يوما، هو في ذاته مدعاة للتحيّة و هو أقرب “للتحدّي” منه للإدارة و التسيير…خاصّة في ظلّ محاولات الإرباك و التشكيك التي قام بها و لا يزال بعض المتعاطين للسياسوية الثقافية خلسة، منذ الإعلان عن تركيبة الهيئة الجديدة للمهرجان.
ميزانيّة مهرجان صفاقس الدّولي تبقى عَصَبَ الجدل و الخلاف حول تقييم نجاح كلّ الدّورات…بقدر ما كان موقف الزميل راشد شعور مبدئيا حين عرضت فكرة رئاسة الدورة 39 عليه، حيث أعاد النقاش إلى محوره الحقيقي و الطبيعي و هو مكانة صفاقس و مركزها ضمن السياسة الثقافية العامة للدّولة و مدى تناسب مساهمة الدّولة المادية مع حجم و مقام الجهة…بقدر ما تجاوز الرأي العام الصفاقسي سريعا هذا المشكل المفصلي، و عاد لحديث العجائز الذي يتقنه: من يسير ؟ و ما خلفيته ؟ و من استدعى و من أقصى ؟ وزارة الثقافة، أمام خفوت صوت المطلبية و الضغط، لم تر بدّا من التنصل من التزاماتها و وعودها بالترفيع في ميزانية المهرجان ودعم بعض العروض…ممّا جعل الهيئة الحالية أمام خزينة ملآنة بالأوهام و النوايا الوزارية الحسنة التي لا تنتج إلا تخبّطا و ازدواجية و غيابا للرؤية…تمثلت تجليّاتها الصارخة في التراجع عن عروض كبرى بعد الإعلان عنها للرأي العام، و أتحدّث هنا أساسا عن عروض راغب علامة و لطيفة العرفاوي و جورج وسوف…الهيئة تتحجج بارتفاع كلفة العروض و عدم القدرة على سدادها…و الحال هي الأدرى بحال خزينتها و بفقرها…فإن بحثت عن شدّ انتباه الناس بحملة دعائية غير واقعية و بوعود ليست موقنة بالإيفاء بها، فهذا منزلق أخلاقي و ضحك على الذقون…و أما إن كانت تنتظر أن يلين قلب وزارة الثقافة فتصرف لها ترفيعا في الميزانية أو دعما بعد الإعلان عن العروض، فهذه مقامرة و مغامرة، لا يحقّ لأي كان أن يجعل جمهور صفاقس كبش فداء لها…و هو في أحسن و ألطف الأحوال منزلق سياسي.
العدول عن سهرة جورج وسوف كان كذلك شاهدا عن حالة من التخبط و “الخفة” التسييرية لدى هيئة المهرجان…الخروج للرأي العام ببشرى أن “سلطان الطرب” كما يسميه محبوه سيكون على الركح هو في ذاته حدث إعلامي و جماهيري بامتياز و له استتباعاته على علاقة المتدخلين و المستشهرين بالمهرجان…و عليه فإن الاستدراك بعد أيام قليلة بأن العرض لن يتم بدعوى أن الجهة المشرفة على إمضاء العقد و هو طرف جمعياتي لم يكن بالجدية المطلوبة و لم يف بالتزامه، هي مسألة مردودة على أصحابها رغم حسن نواياهم…فإدارة المهرجان هي من أعلنت عن العرض و هي من تتحمل تبعات عدم جدية و أهلية الأطراف التي دخلت في شراكة معها….و هو ما تكرر تقريبا بنفس الشكل و الفلسفة مع عرض بانوراما الذي اضطر المدير نفسه إلى التدخل و الإذن بقطعه…و مهما كانت تبريرات ذلك من عدم التزام بالوقت أو عدم حرفية في التعامل مع المسألة اللوجستية أو تدني في القيمة الفنية للعرض، فإن مشهد “افتكاك” الميكرو من فنانة على الركح مسيء لصورة مهرجان عمره حوالي نصف قرن…الهيئة التي تفاوض بالوكالة فرقة موسيقية لتعتلي مسرحا يأتيه الآلاف…دون أن تكلف نفسها الاطلاع على العرض أو أخذ فكرة حول محتواه…فلا هي ضامنة خيره و لا هي متوقيّة شرّه…هي هيئة لا يمكن إلا أن تتحمل وحدها مسؤولية كل المفاجآت و الخيبات المتعلقة به…و لا يمكن لمحاولات الترقيع الحاصلة على المسرح بحجة الوقت و التنظيم أن تحجب و تجبّ انطباعا غالبا حول غياب فلسفة و تصور يضبط نوعية العروض و مستواها و درجة مطلوبيتها لدى الشارع الفني و الثقافي
أدرك أَن رمي الهيئة بغياب فلسفة على مستوى البرمجة قد يتلقاه البعض باستغراب و قد يَرَوْن فيه قسوة باعتبار الميزانية الهزيلة و ضيق مدة التحضير….إلا أنك حين ترى هزالة و رداءة مستوى بعض العروض، و اختيار الهيئة برمجة عرض الافتتاح مرتين….يحملك فضولك إلى التساؤل عن المادة الفنية و الثقافية المتوفرة في البلاد أثناء فترة انعقاد المهرجان…فتجد أن بعض الأعمال التي تتوفر فيها عناصر الجودة و معقولية الأسعار…قد صرفت الهيئة النظر عنها رغم الدعوات و الطلبات على شبكات التواصل ببرمجتها…سأكتفي هنا مسرحيا بذكر عرض “إرهابي غير ربع” للقدير رؤوف بن يغلان الذي شغل النقاد و الجمهور بعمق الطرح و راهنيته…و لم أَجِد تفسيرا لحرمان جمهور صفاقس من عرض بمثل هذه القيمة الفنية المتأكدة…أما موسيقيا، فسآخذ مثال عرض الزيارة للموسيقار الشاب سامي اللجمي، واحد من أضخم و أجود عروض الموسيقى الصوفية خلال العشرية الأخيرة على الأقل. تحرك صفحات التواصل الاجتماعي و جمهور صفاقس من أجل برمجة الزيارة يوم 24 أوت لم تؤثر في الهيئة التي شاءت إعادة عرض المدحة رغم تأكدي من صاحب العرض نفسه أن الزيارة في عطلة في ذلك التاريخ.
ختاما، سأحفظ في ذاكرتي عن هذه الدورة أنها تمت و أنجزت رغم أنه موضوعيا، كان الأمر أشبه بالانتحار لمن تحمل المسؤولية بتلك الإمكانيات الزهيدة و في ذلك الحيّز الزمني الخانق…سأحفظ في ذاكرتي أن مسرح سيدي منصور لم يغلق أبوابه و لم يبق في العتمة رغم أن الكثيرين دبروا لذلك و سعوا سعيهم عبر لوبياتهم و أبواقهم…سأحفظ أن إرادة جمهور صفاقس كانت أصلب من إرادة وزارة الثقافة…فتوافدوا على مسرحهم و كانوا كسوته و حلته رغم حصار المسؤولين على السياسة الثقافة بالبلاد على صفاقس و مهرجاناتها. أعلم أن كلامي لن يروق لا للهيئة و لا لمناوئيها، و ليس هذا مبتغاي و لا ما أكتب لأجله…لا علم لي بمآل و لا مستقبل ملف إدارة المهرجان، و لكني من باب المسؤولية الأخلاقية كإعلامي و كمتابع للشأن الثقافي، أحيي الهيئة الحالية للمهرجان على شجاعتها في القبض على جمر مسؤولية الإدارة رغم العلم بأذاها…و أدعوها بكل تجرد إلى التفاعل بإيجابية مع ما أسلفت من نقد…فمن تقدّم لتولي الشأن العام، لم يعد ملك نفسه…و حب صفاقس و مصلحتها مقدّم على إرضاء الأشخاص مع حفظ مقاماتهم جميعا.
بقلم أحمد البهلول