طوق الياسمين .. توق الفنّانين للعلا
ما أصعب الكتابة !! ما أصعبها خاصة لما يكون المكتوب عنه في شموخ الشّمس والقمر والنّجم سلوا قلبي عن حيرته مع القلم.. هل يطيعني وقد تيقّنت أنّه من واجبي أن أكتب عمّن متّعوني ليلة كاملة هي كلّ العمر. فقهت حقّا أنّ صفاقس عاصمة ثقافيّة على الدّوام ما دامت تملك عنقودا متماسكا متحالفا على الكرسي؟ ..لا.. لا.. على الفنّ الحقيقي. لا أطيل عليكم إنّه “طوق الياسمين” ما أرفعه! إنّه خيط في السّماء…
إنّه حلم جميل من النّوع الذي تتمنى أن يدوم.. أن يتكرّر.. لما فيه من صفا وصدق ووردية.. ما أحلاه ! يا الله ما أحلاه !!
من أين أبدأ بالله عليكم ؟
أبدأ من الجمهور لماذا ؟ لأنه جمهور فرض عليه “طوق الياسمين” ذوقا ساميا لا جدال فيه، هو مبدأ الإنسانية يوم تنازلت عن الغاب وتعاقدت على التحضّر والمدنيّة. إنّه جمهور أنا منه وأفتخر. نحن جمهور تربّى داخل أكاديميّة “طوق الياسمين” الموسيقيّة – الغنائيّة. فتعلّم كيف يلتقط الرنّة العبقريّة فيهتزّ لها ويقول : “لا” لغيرها. وكأنّني داخل أكاديميّة ثانية لأفلاطون : تعلن : “لا يدخلنّ علينا إلاّ الرّياضيّ” تعم.. ألم يصنّف الفرابي الموسيقى ضمن العلوم الرّياضيّة في كتابه “إحصاء العلوم” ؟ ذلك أنّ الموسيقى زيادة على كونها علما للنّسب فهي مجرّدة تجرّد الرّياضيّات إنّه الجمهور المجرّد الشفّاف المشغول عليك أيتها النّغمة المسافرة من القلب في اتّجاه القلب.
أين أنت أيّها الثامر الطرابلسي ؟
تقدّم على الرّكح. لتقف لك ياسميناتك توقيرا وإكراما. يا من أعزّ الفنّانين العظام وأجلّ إبداعاتهم قل لي أيّها المايسترو الفذّ. “أ أنت تنسج أم أنّك تطرّز؟” إنّك ترسم بلغة الموسيقى عالما نقيّا وبيديك تستدعي اللّحون الواحد تلو الآخر فتنبع من حورياتك المطيعات الصادقات ترنيمة بلون الشّفق وتنهيدة بلون الموج وتتداعى هضبة بلون البلّور وتعلق سحابة بالأفق تدور ثمّ تتهادى بلون الألم… إنّه عالم فني من أثير ينسينا الواقع المعيش ببلادته ووقاحته.
متى يحين دور سميّة ؟؟
أوّلا : “سلامتك من الآه” كما يقول كاظم.
نحن أحبّاء “طوق الياسمين” علمنا بمرض سميّة لكن تأكّدنا من حضورها لأنّ ياسمينات ثامر الطرابلسي عوّدتنا على التّضحية من أجل تقديم حفل رائع كالعادة. ومن أجل الخير السّامي. إذ لا ننسى أنّ فنّاناتنا الرّهيفات لا تتقاضين أجرا بل تتبرّعن بالمداخيل لأطفال تونس. وهذا لا يفعله إلاّ الفنّانون الرّفيعون الأصيلون والوطنيّون الحقيقيّون. عاش “طوق الياسمين” بنسائه ورجاله وشبابه وجمهوره ذخرا لتونس العزيزة.
مرحبا بك يا سميّة. أ أنت فلتة فنية أم قطعة موسيقيّة ؟ ما أحلى هذا الصّوت! ما أعذبه إنّه يشفي المرضى ويخلّص المكتئبين من الكآبة.. وهذا لا يفعله إلاّ المغنّون الذين شربوا الموسيقى وأنت قد شربتك الموسيقى حتى استحوذت عليك واحتوتك فصار غناؤك “يحيي القلب ويزيد في العقل ويسرّ النّفس ويفسح في الرّأي ويبرئ المرضى…” وهذا ما قاله أبو الفرج الإصفهاني في كتابه العظيم : “الأغاني”.
وأمّا أنت يا لبنى، فرغم صباك قد تجرّأت على “شمس الأصيل” إحدى أهرامات الطوق الكلثومي فأبدعت وأبكيت ولوّعت. كيف لا؟ وأنت الجريئة القادرة المقتدرة. بارك لك الله في صوتك العريض الصّييت المصيب وحضورك المهيب. إنّك كلّك على بعضك تحفة كما قال بيرم التّونسي في كلمات القصيد الذي غنّيته لقد أسعدتنا وأطربتنا كما تفعلين دائما.
أطال الله عمر فيروز الرّحباني فهي نعمة من نعم عصرنا الإنساني الحالي قاطبة ونحمد الله على أن تكون عندنا في “طوق الياسمين” فيروزة لامعة صافيّة صادقة تحمل اسم ضحى والتي جمعت بين العظيمتين الخالدتين فيروز وشهرزاد.
ما أحوجنا إلى صوت كلّه حماس “وعصب” على حدّ تعبير أسامة رحباني ليقول :
“أنا حرير السجينات
انهضن يا سجينات
أنا شهـــرزاد”
ما أجمل هذا الموشّح : “يا شهرزاد”! فقد كشفت لنا ضحى أنّ المبدعين عاصي ومنصور رحباني قد تألّقا في كلّ أنواع التّأليف الموسيقي. وحسن الاختيار ذكاء إنّه اختيار امرأة حرّة مثقّفة فنّانة أصيلة اسمها ضحى وصوتها وضّاح.
وقد قال بوب مارلي : “الموسيقى تستطيع أن تجعل النّاس أحرارا”.
لماذا لم تغنّي يا منى؟. كيف تحرميننا من صوتك المخمليّ الرّخيم الدّسم الّذي يهدهد الوجدان؟ إنّ رائعة فقيد الطّرب العربي ملحم بركات “موعدنا أرضك يا بلدنا” التي ترنّمت بها في ماي 2016 مازالت ترنّ في آذاننا. فلا تبخلي علينا مرّة أخرى لأنّك بذلك تقسين على عشّاق صوتك… لو تعلمين يا أمّ سليمة؟
انظروا إلى هالة كيف تتدرّج نحو الميكرفون وهي مرتبكة مضطربة قد يعلّق بعض السّطحيّين “إنّها غير واثقة في نفسها”. إنّ من شيم المثقفين الارتباك والتوتّر على الرّكح وقد صدق من قال : “إنّ الإبداع معايشة للتوتّر”.
إنّ التوتّر زادها وسامة وسحرا لأنّه توتّر الصّادقين الحريصين على الجودة..
اسمعوا الآن غناءها.. أغنية صعبة لكارم محمود مليئة بالتّفاصيل والتّداوير وينبغي على من يغنّيها أن يعرف كيف يوصل حلاوتها إلى الأسماع.
“أمانة يا ليل” كانت طيّعة مطيعة لصوت هالة الطربي الجميل الأصيل.
كان الجمهور مرهف السّمع دقيق الاتّباع يتلذّذ ويتطعّم غناء جميلا مريئا كطعم البقلاوة الصفاقسيّة الأصليّة على حدّ تعبير الملحّن التّونسي الكبير ونّاس كريّم قيدوم إذاعة صفاقس.
استمتعوا – صفّقوا – هلّلوا. فهالة المبدعة تستحقّ..
لمّا نحت “بجماليون” تمثالا لجلاتيا في مسرحيّة توفيق الحكيم كان يتوق لمثال الجمال في جوهر امرأة.. امرأة من شعر – امرأة من فنّ خالص متعالية عن اليوميّ.. عن المستهلك مفارقة لهما.
ولمّا غنّت ريم “حبيبي لعبتو” للموسيقار العبقريّ محمد عبد الوهاب فعل بها اللّحن – وليس أيّ لحن – ما فعله النّحت بالتّمثال.
لقد أحبّت ريم هذا اللّحن رغم أنّه غير معروف فصار حبيبها وصارت هي لعبتو : امرأة من عطر… كتلة من إحساس.. جبال من نور. عالم من رؤى… لا يهمّ.. المهمّ أنّها تتمتّع بأغنيتها… لا يهمّ هذا العالم.. أليس الفنّ تجربة ذاتية؟ تجربة صوفيّة أحيانا أعيرينا يا ريم ناظريك لنبصر العالم المرئيّ لديك واللاّمرئي لدينا.
لا أريد أن أتحدّث عن صوت ريم الآن لأنّ هذه الفنّانة الجميلة la Ryma Venusa ترى مرّة وتسمع مرّة أخرى.
متى رأيتم الياسمين معلّقا جذره في الثريّا وأوراقه في اتّجاه الثّرى؟
لم يكن الرّكح أو مغرس الياسمين إلاّ من ديزاين فنّان أراده قرية تونسيّة – عربيّة. هذا المشهد يعكس ذاتنا الفوّاحة النيّرة.
تأمّلوا هؤلاء الآلاتيّة إنّهم بهرتان من نور : إيقاعيّون من جهة. ووتريّون من جهة أخرى في منتهى التّركيز والانضباط والوقار حتّى تخالهم “من الأقدمين على ركح أزليّ” حسب تعبير فقيد الأدب التّونسي توفيق بكّار..
تحوّل الرّكح إلى زمان هو لحظة بعمر ثلاثة ألف سنة لحضارتنا. هذا الزّمان مسترسل من الكهول إلى الشّباب. تآلفت الأعمار وتواصل الفنّ من الأستاذ الجليل رمز الكهول الحبيب الزّوش : عازف الكمنجة.. إلى رمز الشباب الفتى النّبيل : بيرم الزّوش : عازف التشالّو./.
تلاقح الأجيـال ينبئ بتواصل “طوق الياسمين” إن شاء الله
صوفيا كريم ( أستاذة لغة عربية – مجازة في الفلسفة )