رسالة مفتوحة: رفقًا.. ( بقلم حنان التريشيلي )
قديما كان المربي بمقام أب… في وقاره و هيبته و احترامه لنفسه و لقسمه و عمله…. لم تتوقف دروسنا يوما إلا متى ألم به المرض… و كان مدير المدرسة من يعوضه يومها كي لا يفوتنا الدرس…. و تدرجنا إلى المعهد و لم تختلف صورة الأستاذ عن المعلم… و تقاسمنا مع أساتذة السنوات النهائية ضغط خطوات المراجعة الأخيرة و حلاوة إعلان أسمائنا بالمصدح – قبل أن تقتل تكنولوجيا الإرساليات القصيرة تلك الفرحة مع الدفعات التي جاءت بعدنا-….
و في رحاب الجامعة نهلنا العلوم من أساتذة كنا نراهم في قمة الهرم الأكاديمي … و نتخيل كم الخبرة التي اكتسبوها ليكونوا في منزلتهم تلك…. كانوا يحدثوننا عن شهائدهم و غربتهم لسنوات من أجل تحصيل معرفي لم يرتق له غيرهم فـنـثـمن ذلك و في داخلنا رغبة في الانحناء لهم إجلالا….
ثم بدأت هذه الصورة تتغير من أول درجات المعرفة الى أعلاها…. و بدأ بعض من يطلقون عليهم صفة “المربي” يدسون في كراسات التلاميذ أرقام هواتفهم ليتصل بهم الأولياء و يدفعون لهم “مرتبات” أخرى لدروس من نوع “خاص” جدا …. دروس تحول التلميذ الضعيف إلى “جهبذ” في بضع أسابيع…. و تضاعف علاماته بقدرة قادر…. و أصبح التلميذ ولي نعمة أستاذه و مصدر رزقه و خفت نور العلم أمام بريق المادة…. ثم أصبح الأمر عرفا و صار الاستثناء أن تجد أستاذا يكتفي بمرتبه ليؤدي واجبه………..
و بعد الثورة أصبحت الإضرابات أسهل الطرق للحصول على المطالب المشروعة و غير المشروعة…. يكفي أن تعطل مرفقا لكي يُستجاب لمطالبك…. سياسة “لي الذراع ” أتت أكلها تقريبا في كل المجالات…. و هكذا ارتفعت مرتبات كل القطاعات و ارتفعت معها أسعار كل المواد و الخدمات دون استثناء….و أصبحنا في دوامة كرة الثلج….
و منذ سنتين كانت المفاجأة…. لم يقتصر الإضراب على إيقاف الدروس بل تجاوزها إلى حجب الأعداد…. و ناورت وزارة التربية بإقرار الارتقاء الآلي… و دفع التلميذ – وحده – الضريبة…. لأن التلميذ الضعيف حُرم من فرصة إعادة السنة ووجد نفسه في مستوى هو لم يقدر على ما دونه…. و المتميز حُرم من فرصة تكريمه و من حقه الأدبي في التهنئة…. و كان ختام السنة بلا طعم…
و الآن نجدنا تعودنا على ذات السياسة… نحرم طالب العلم حقه (في التعليم حينا بإيقاف الدروس و في التقييم تارة بحجب الامتحانات أو الأعداد) لنتحصل على….”حقوقنا”….
لم تعُد الحقوق تُفتك بالنضال و بالتضحيات… بل بافتكاك حقوق الحلقة الأضعف و تقديمها كبش فداء…. إنها الميكيافيلية بامتياز……
و المثال نفسه ينسحب على باقي القطاعات…. فالمريض هو من يدفع ضريبة “نضالات” العاملين في قطاع الصحة….. و المتقاضي هو من يدفع ضريبة “نضالات” العاملين في القضاء و المحاماة…. و غدا واردا جدا أن تدخل منزلك فلا تجد في حنفياتك ماء و لا في مصابيحك إنارة لأن العاملين في القطاع يستعملونك أداة ضغط على رؤسائهم….
هذه الفئة من المضربين تطالب عادة بالحوار مع سلطات الإشراف لكنها ترفض فتح الحوار معك إن لم تكن من مسانديهم… فأنت في نظرهم “عميل” و “خائن” لشرف القضية….
هذه الفئة من المضربين ترى المريض يتألم و صاحب الحق يُقهر و طالب العلم مستاء و حائر…. لكنها تعزو كل هذه النتائج إلى صمت الوزارات المعنية… وتصور نفسها في براءة الذئب من دم ابن يعقوب…. و هي في الحقيقة تلقي بضحاياها في اليم و تنتظر أن لا يبتلوا…..
و طبعا يحاولون إقناعك بأنهم “يناضلون” لإصلاح المرفق العمومي و لتحسين ظروف العمل من أجل خدمات أرقى للمواطن البسيط ….. الغاية تبدو نبيلة و مشروعة…. فقط مع تعديل بسيط…. أصبحنا كل سنة نعيش نفس الأحداث… تصعيد و ضغط و مطالب تُلبى جزئيا ثم انفراج (أو هي هدنة على الأصح)… و نعود من جديد للتصعيد فالضغط فـ…فـ… و لا ننتهي…. و نبقى نحن رهينة هذا القطاع أو ذاك…. و رهينة تنافس القطاعات على من ينجح في “اقتلاع” أكثر مطالب من غيره….
المريض دفع الفاتورة يوم شملت الإضرابات مستشفياتنا…. و صاحب الحق المهضوم دفع الفاتورة يوم تعطل مرفق القضاء و التلميذ و الطالب دفعا الفاتورة يوم أصبحت منابر العلم فضاءات للمناورة …. فعلى من الدور؟
و في خضم كل هذه التحركات يبقى تلميذ المدارس الخاصة و طالب الجامعات الخاصة و مريض المصحات الخاصة بمنأى عن كل ضرر…. فالتلميذ أو الطالب في المؤسسات الخاصة يكمل برنامجه الدراسي و يجرى اختباراته و يتحصل على أعداده… و مريض المصحات يتلقى كل أصناف العلاج بمعاملة ممتازة و قبول حسن و عناية تليق بغلاوة صحته……. و لك رب العالمين يا من لم تجد غير مؤسسات الدولة لتلجأ إليها….
كل القطاعات على اختلافها تشكو نقائص منذ سنوات وأستغرب أن توجد سلطة إشراف ترضى بغير الأفضل (على الأقل حفاظا على كراسيها)…. و من يطالب عادة بالتغيير و التحسين هو ذلك الذي يحب مهنته و يغار على القطاع الذي يعمل فيه و لا يراه مجرد مرتب يُصرف آخر الشهر… و هذا غاية النبل و أولى حلقات الانعتاق من الرداءة…. لكن ناضل و ادفع بنفسك ثمن نضالك كي تستحق وسام النصر….. لا تُقحم الحلقة الضعيفة في قائمة التضحيات…. “لا يلتجئ” عادة للمرفق العمومي إلا من لا خيار له…فارفقوا بهم….
القراء يكتبون : حنان التريشيلي