اللغة والهوية في بلادنا : بقلم د.محمد الناصر بن عرب

الدكتور محمد ناصر بن عرب

كتب زميلي وصديقي الحكيم الأستاذ أحمد ذياب مقالا شيقا تحت عنوان “لست عربيا…ولله الحمد” شمل أزمة الهوية التي يمر بها شعبنا. ودعما لما قدمه في هذا المقال أريد أن أطرح مفهوم الهوية التي تُعتبر العروة الوثقى للأمم في كل مكان وزمان. ويبدو لي أنها تشهد عندنا تآكلا مهددا بالتلاشي فأصبحنا شعبا يجهل هويته وقد غمره الشك في أصله وفصله وأنكر ذاته حتى كاد يذوب في شعوب سواه.

إن هذا الوضع الاجتماعي والأخلاقي الذي تمر به بلادنا أراه مرتبطا ارتباطا متينا بأزمة الهوية الناتجة عن المنظومة التربوية التي اعتمدتها وزارة التربية والتعليم منذ الاستقلال.

وحسب قاموس المعاني تعتبر هوية الانسان بأنها حقيقته المطلقة وصفاته الجوهرية. وتتألف من ثلاثة أركان: اللغة، والدين والمعتقدات، والعادات والتقاليد. والأسئلة التي يقتضي البحث فيها هي: من نحن؟ وماهي الخصوصيات التي تميزنا عن باقي الأمم كالفرنسيين أو الألمان أو الصينيين مثلا؟ والجواب فيما نرى، سهل جدا. نحن شعب ينتمي إلى كتلة بشرية عظمى تدعى العالم العربي الإسلامي تجمع شمل كل من شعوبها اللغة العربية والعادات والتقاليد التي تختلف اختلافا كبيرا عما يقابلها عند الأمم التي ذكرتها.

لقد عرض لنا الحكيم أحمد ذياب ما سمعه عن العرب من شخص يعتبر نفسه منحدرا من جذور اسبانية ولا علاقة له بالعرب بتاتا. وهنا لا بد من توضيح سوء فهم جَلِيٍّ ومنتشر في نظر الأكثرية عندنا وهو الذي يتكلم اللغة العربية لا بد أن تكون أصوله العرقية عربية. وهذا هو الخطأ الفادح، إذ أن اللغة العربية ليست لغة العرب، بل هي لسان ومن تحدثه فهو عربي اللسان. وليست نسبة لجنس العرب ولا عرقا أو عنصرا ولا انتماء إقليميا. وفي دراسة قام بها الأستاذ وليام مارسي الفرنسي في هذا الشأن يقول “لا يوجد خطأ أعظم من الاعتقاد في أن التقسيم بين الناطقين بالعربية والناطقين بالبربرية يعكس تقابلا بين جنس عربي وجنس بربري”.

إننا شعب إفريقي، ننحدر من الانسان الزنجي قبل تكوين الصحراء بسبعة ملايين سنة. وبتلك الصحراء تم عزل شمال إفريقيا عن بقية القارة الإفريقية وغزاها بعد ذلك العديد من الأمم من بلدان البحر الأبيض المتوسط وخصوصا من مصر وأثيوبيا والجزيرة العربية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى.

وإلى يوم الناس هذا لم يتوفر لدينا أي دليل قاطع على أن البربر والأمازيغ هم السكان الأوائل في شمال إفريقيا. فنحن خليط من الزنج والبربر والأمازيغ واللوبيين والفينيقيين والرومان والواندال والأتراك والعرب. وكما قال الأستاذ أحمد ذياب لم يبق لنا كتاب أو سند واحد بلغات الأمم التي غزت بلادنا واستوطنتها طوال مئات السنين أما اللغة العربية فهي اللغة التي يكتبها ويقرأها شعبنا وهي التي تجمع شملنا مع كل الشعوب الناطقة بها منذ القرن السابع ميلاديا.

وبما أننا من أولئك الذين يؤمنون أن المعرفة لا تتطلب طلب العلم فحسب بل تفرض قراءة التاريخ وإعادة قراءة التاريخ، نحاول البحث عن أصول اللغة العربية التي أصبحت لغتنا بقطع النظر عن أعراقنا المختلفة.

تنتمي اللغة العربية إلى أسرة اللغات السامية التي تنسب إلى سام ابن نوح عليه السلام كما جاء في التوراة والإنجيل والقرآن. ومنذ القرن الثامن عشر ميلادي رتب اللغويون هذه الأسرة اللغوية لكل الشعوب التي سكنت قديما وتسكن الآن شبه الجزيرة العربية واليمن والحبشة وأريتريا وبلاد الشام والعراق وشمال إفريقيا. وتعتبر اللغة العربية أحدث اللغات السامية وقد سبقتها عدة لغات منقرضة الآن مثل اللغة الأكادية والفينيقية والأوغاريتية والعمورية والكنعانية والآرامية والآشورية والبابلية والعبرية…وأكثر الباحثون يعتبرون اليوم أن اللغة الأمازيغية تنحدر من أصول مشرقية عربية حميرية. وفي هذا الصدد قال ابن خلدون “إن الأمازيغ كنعانيون تبربروا، أي إن البربر هم أحفاد مازيغ بن كنعان مؤكدا أن الحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنهم، إنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح…وأن اسم أبيهم مازيغ، وإخوتهم أركيش، وفلسطين إخوانهم بنو كسلوحيم بن مصرايم بن حام”. وعلى العموم يتفق اللغويون أن القديس الأمازيغي المشهور أوغسطين قال قديما: “أن الأمازيغ كنعانيو الأصل. وإذا سئل الفلاحون عن أصلهم قالوا: نحن كنعانيون”. ومن هذا المنطلق، لما غزا الفينيقيون شمال إفريقيا وأسسوا قرطاج لم يجدوا صعوبة في التواصل والتفاهم مع الأمازيغ نظرا لانتماء اللغتين للأخوين سام وحام أبناء نوح. وبعد استيطان الرومان بشمال إفريقيا، أتى الغزاة العرب المنحدرون من سام بن نوح. ولما استقر لهم الأمر بعد غزوهم لم يكن التعريب صعبا رغم استيطان الرومان بإفريقية، لأن لغة السكان كانت الأمازيغية التي تنحدر من حام بن نوح واللغة الفينيقية من سام ابن نوح. ويرى جميل حمداوي “أن الأمازيغ يشتركون مع العرب في الأصل السامي الكنعاني وفي موطن الانحدار والانطلاق الذي يتمثل في شبه الجزيرة العربية”.

وإن اجتهدنا لتوضيح هذا الشأن فذلك للتأكيد بأن اللغة العربية واللغة الأمازيغية مترابطان ومن أصول لغوية مشتركة عريقة لا شك فيها. وأغلب الظن أن الغزاة العرب استطاعوا استيطان شمال إفريقيا وتغلغلوا في أرجائها بفضل أصول اللغة العربية ذات القرابة المتينة التي تربطها باللغة الأمازيغية واستمرت اللغة وتوغلت منذ أربعة عشرة قرون. أما استيطان الرومان فكان أغلبه ساحليا ولم يبق له أثر باستثناء الأطلال. واليوم تجمع اللغة العربية شمل الشعوب الناطقين بها كما تجمع اللغة الفرنسية مجموعة الدول الفرنكوفونية. لقد كانت اللغة الأمازيغية لغة يفهمها ويتقنها أغلبية قبائل شمال إفريقيا لكنها تراجعت أمام اللغة الفينيقية بعد تأسيس قرطاج وأوج حضارتها في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي وحتى سواحل البرازيل. فالحديث عن تعميم اللغة الأمازيغية وإدراجها اليوم كلغة رسمية مسجلة ضمن دستور بلدان شمال إفريقيا أمر خطير جدا لأن اللغة الأمازيغية ليست مؤهلة للتعليم والبحث العلمي الذي يوفر لنا التقدم والرقي المنشود. وإن المطالبة بالتخلي عن اللغة العربية اليوم لفائدة اللغة الأمازيغية يجعلها أمام ضرورة مراجعة اختيارات مضى عليها خمسة عشر قرنا مهما اختلفنا في تقويم تلك الاختيارات. وهذا أمر عسير وصعب المنال، يحتاج منا إلى بذل جهود نحن أحوج إليها في معارك بناء الدولة والقانون ومواجهة العولمة ومواصلة الترجمة والتعريب والبحث العلمي والعمل على انتماء ثقافي وحضاري ضمن الكتلة البشرية الناطقة باللغة العربية.

وتصديقا لما نقوله فإن الناطقين باللغة الأمازيغية حفظوا اللغة العربية وأبدعوا كتابتها واختاروها لغتهم الرسمية في العلوم والأدب والإدارة والشئون السياسية والديبلوماسية، كما حصل في عهد الدولتين الأمازيغية المرابطية (1056-1147 م.) والموحدية (1121-1269.م). فلو كان للغة الأمازيغ مكانة في ذلك العهد لقررت هاتان الدولتان “العظيمتان” اعتمادها لغة رسمية.

إننا نمر بأزمة صعبة جدا، أزمة الهوية المنكسرة، وإفقار لغوي وفكري رهيب بفعل منظومة تربوية لم تقرأ للهوية حسابا، إذ هي تخلو من تعليم التراث الإفريقي والأمازيغي والفينيقي والإغريقي والروماني والعثماني والعربي المشترك. إنها منظومة تربوية تأسست تحت رعاية المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم(ألسكو) والمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (إسيسكو) اللتين تخضعان لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) والاتحاد الأوروبي وهذه المنظمات هي التي تأمر بصياغة الوثائق المرجعية لوزارة التربية والتعليم في البلدان العربية والإسلامية.

والنتيجة الواضحة لذلك هي فرض مدرسة لا تضمن الذكاء والتفكير. ففي العالم العربي يكسب الطفل بين السنتين الثالثة والسادسة ثلاثة آلاف كلمة أغلبها من اللهجة العامية وبعضا من الكلمات الفرنسية أو البريطانية أو الاسبانية حسب البلد العربي، بينما يمتلك الطفل في نفس السن ستة عشرة ألف كلمة في البلدان الأوروبية والأمريكية. فكيف نفسر هذه الظاهرة؟ عندما أصبحت الدولة العثمانية الاسلامية في أوج قوتها وسيطرت إلى أواخر القرن التاسع عشر ميلاديا على ثلاث قارات، الافريقية والآسيوية والأوروبية، تساءلت فرنسا وبريطانيا عن أسباب تفوق المسلمين وسيطرتهم على العالم. وبفضل كتاب عنوانه “الاسلام المجاهد أو الاسلام الثائر” للكاتب الهندي جانسن، اكتشف الخبراء الفرنسيون والبريطانيون الجواب عن سبب هذا التفوق الذي كان مرتبطا بحفظ القرآن كاملا في الكُتاب للأطفال بين السن الثالثة والسادسة. لأن القرآن هو أولا كلام الله، وهو أيضا موسوعة لغوية عربية تحتوي على سبعة وسبعين ألفا وأربع مائة وتسع وثلاثين كلمة. وبعد حفظ القرآن، يحفظ الطفل ألفية بن مالك في النحو والصرف بين السنتين السادسة والتاسعة ويفهم معنى كل كلمة في القرآن. وهذا الكم من الرصيد اللغوي يخول للطفل قدرة جبارة على التفكير. فقررت فرنسا وبريطانيا تدمير الكُتاب في كل الأوطان العربية واعتمدت فرنسا اللغة الفرنسية لغة رسمية في الجزائر وأغلقت المساجد ومنعت ممارسة الطرق الصوفية وتعليم اللغة العربية، إذ أن الكُتاب كانت المدرسة التي أنجبت أمثال البيروني وابن سينا وابن خلدون لأنه غي ذلك العهد كان الفضاء الذي يسمح للطفل بممارسة التجارب الثقافية واللغوية وبالاكتشاف المستمر وهو يلعب. وتؤكد الدراسات العلمية اليوم أن مثل هذا المنهج يضمن للطفل الذكاء وملاحظة وتقصي العالم وفهم البعدين الزماني والفضائي والتفكير المجرد والتفكير الرمزي لاستيعاب الرياضيات والتحليل المقارن وذلك فضلا على الكم الهائل من الكلمات الذي يتجاوز حوالي مائة ألف كلمة، بينما تضمن المدرسة اليوم للطفل حفظ خمسين مفردة في السنة فقط. كان الكُتاب فضاء للأطفال للمرح واللعب والاكتشاف المستمر في أمان فيما بينهم دون أي تدريس أو فرض تمارين إذ المطلوب من الأطفال هو التركيز لمدة وجيزة في اليوم لحفظ سورة قرآنية أو قصيدة شعرية أو موعظة أو حكاية أو أمثال شعبية وأدبية. وبهذه الطريقة يستطيع الطفل اكتساب مائة ألف مفردة في السنة. أما تطبيق برامج التعليم المقترحة أي المفروضة في مدارسنا اليوم من قبل اليونسكو والاتحاد الأوروبي والتي لا تطبق في المدارس الأوروبية والأمريكية والروسية واليابانية والصينية والهندية، فهي لا تسمح للطفل في بلادنا إلا باكتساب خمسين مفردة في السنة ولا يمكن للطفل بهذا العدد القليل من المفردات أن يكتسب التفكير المجرد والرمزي والتحليل المقارن لاستيعاب الرياضيات وفهم البعد الفضائي والزماني ومعرفة العالم. والطفل الذي لا يعرف العالم لا يحب وطنه. وظاهرة الفرار من أوطاننا ناتجة عن عدم معرفة العالم.

نحن نمر بأزمة هوية في بلادنا وقاموس المعاني يشرح الأزمة كمرحلة يشتد فيها الصراع إلى درجة يتحتم فيها الوصول إلى حل حاسم يقتضي هنا البحث عن الأسباب العديدة للأزمة التي نمر بها، أهمها اللغة. ويبدو أننا لا نفرق بين اللغة بمعنى اللسان والأصول العرقية، لأن اللغة العربية ليست لغة العرب، وإنما هي اللغة الواضحة المبينة وليست لغة عرقية ولا إقليمية ومن تكلمها أصبح عربي اللغة. وبما أن اللغة هي أساس الهوية، يحتم علينا أن نتقنها ونعمل على رعايتها وصيانتها ولا نستعمل في حديثنا لغة عوضها. وبقدر ما نرفع من شأنها تقوى هويتنا وترتقي بنا إلى الحداثة واتقان اللغة العربية اتقانا جيدا يمكننا من اتقان اللغات الأجنبية على أحسن وجه.

هنالك أمر لا بد من ذكره هو أن اللغة العربية لغة منطقية، أركانها النحو والصرف والإعراب والعروض ومن أتقنها وحفظ أكثر عدد ممكن من مفرداتها تمكن من التمتع بِمَلَكة قادرة على الخيال والابداع والابتكار والاختراع. وهذا ما يفسر أن اللغة العربية كانت لسان العلوم لأوائل العلماء في العالم من القرن الثامن إلى القرن الرابع عشر ميلاديا بصرف النظر عن أصولهم العرقية. فكلهم حفظوا قبل الثانية عشر من سنهم القرآن الذي يحتوي على سبعة وسبعين ألفا وأربع مائة وتسع وثلاثين كلمة إضافة إلى ألفية بن مالك في النحو والصرف والشعر الجاهلي والعروض. وعلاوة على هذا الكم الهائل من عدد الكلمات في اللغة العربية، نُذكِّر أنها إعرابية أي أنها منطقية، تتيح للأطفال إمكانية الوصول إلى التفكير المجرد والرمزي والتحليل المقارن لاستيعاب الرياضيات، الشيء الذي يميزهم بقدرة جبارة على الابداع والابتكار. أما اللغة الفرنسية مثلا فليست لغة إعرابية، ولهذا السبب غالبا ما تكون مزدوجة بتعليم اللغة اللاتينية أو اللغة الاغريقية أولا لأن اللغة الفرنسية منحدرة من اللغة اللاتينية والاغريقية ثانيا لأن هاتين اللغتين إعرابيتان أي منطقيتان قادرتان على استيعاب الرياضيات. وهذا دليل قاطع على تميز اللغة العربية وقدرتها على الاكتفاء بذاتها للارتقاء إلى عالم المعرفة والعلوم والابتكار والاختراع إذا تم إتقانها على أحسن وجه كما أتقنها علماؤنا في عهد أوجها.

فكيف الوصول إلى اكتساب الذات من جديد والرفع من شأننا والاعتزاز بلغتنا العربية والاطلاع على ما قدمته للبشرية من علوم لارتقاء الانسان في بلادنا إلى ما هو أفضل؟

نقترح لذلك:

– إعادة النظر في المنظومة التربوية وتحريرها من هيمنة المنظمات الدولية حتى يرتقي عدد المفردات عند الطفل في بلادنا إلى ستة عشرة ألف مفردة بين السن الثالثة والسادسة كما هو الحال في البلدان الغربية والمتقدمة.
– إعادة قراءة التاريخ لفرز الغث من السمين من المعرفة الموروثة عن أسلافنا.
– الالتزام بتعليم التراث المشترك الانساني والوطني والقومي انطلاقا من المدرسة الابتدائية.
– تمويل البحث العلمي في القطاع العام والخاص في شان الثقافة والعلوم والصحة والتغذية والطاقة والتقنيات الحديثة من طرف الدولة ومن المجتمع المدني والمحسنين.
– إنشاء مؤسسة ترجمة واسعة النطاق خاصة بالعلوم.
– تعليم اللغات الأجنبية بعد إتقان الطفل اللغة العربية على أحسن وجه.
– تعليم الإعلامية بأجهزة الحاسوب والهاتف النقال باللغة العربية.
– ……………

بقلم د.محمد الناصر بن عرب

قد يعجبك ايضا