قرقنة: نحو إدراج “صيد الشرافي” في التراث اللامادي لليونسكو
صيد ” الشرافي” في جزيرة قرقنة من ولاية صفاقس ليس مجرّد تقنية تقليدية لصيد سمك ذو جودة رفيعة، بل يتجاوز ذلك ليعتبر موروثا ثقافيا ضاربا في عمق تاريخ الجزيرة، وميزة تطبع المنطقة التي لا يتوان أهاليها عن التعبير عن ارتباطهم بهذا التراث حدّ التغني به.
الشرافي…تقنية دقيقة لمنتوج ذو جودة عالية وعن دقّة طريقة صيد “الشرافي” التقليدية وجودة منتوجه السمكي يقول البحار المختص في صيد “الشرافي”، محمد يحيى، إنه يتم بناء الشرفية وفقً خطة مدروسة ومحكمة جيدًا يشرف عليها رايس (ربّان) ذو خبرة عالية ودقيقة باتجاه الريح والامواج ووجهة الاسماك عند المد والجزر وتقوم اساسا على تهيئة مسالك ومساحات يحدها من الجانبين سياج من جريد النخل المغروس في عمق بحر جزيرة قرقنة الذي يعرف بقصره … ويتبع السمك جانبي سياج الجريد الذي يعرف لدى البحارة بـ”الرجل” يدفعه في ذلك تيار الريح او ما يعرف ب”الكرينتي” حتى يدخل بهدوء تارة بـ”الملية” واخرى ب”النزحة” في حلقة كبيرة تسمى لدى البحارة “الدار” ومن ثمة يجد السمك نفسه مجبرا على الوقوع في الفخ او ما يعرف بـ”الدرينة” المصنوعة من السعف المستخرج من النخيل ليقضي داخلها 24 ساعة دون اكل شيء ويتم مع طلوع شمس اليوم الموالي رفع الاسماك داخل “الدرينة” من قبل البحار وتكون عادة أمعائها نظيفة من الاوساخ مما يجعل مذاقها لذيذا ومتميزا والاقبال عليها كثيفا من قبل الحرفاء الصفاقسية ذوي الذائقة والخبرة الرفيعة في اختيار السمك، وفق تعبيره. “الشرفية” … نسبة الى شرف العائلة المالكة وشرف الوسيلة التقليدية في الصيد البحري …
أمّا تاريخيا فتعدّ “الشرافي” أو ما يعرف بـ”الشرفية” من أقدم وسائل الصيد البحري التقليدي القار التي اشتهرت بها جزيرة قرقنة منذ عهود، وتعود هذه الطريقة في الصيد، حسب بعض الوثائق، التاريخية إلى العهد البونيقي في حين ظهر مصطلح “الشرفية” في القرن الـ17 مع ظهور عقود الملكية البحرية الخاصة في عهد الباي الحسيني سنة 1670، وفق ما أوضحه لـ”وات” الدكتور في التاريخ بجامعة صفاقس عبد الحميد الفهري. ويحلو لعبد الحميد الفهري وهو أصيل جزيرة قرقنة ومن أكثر المؤرخين الذين اشتغلوا على موضوع “الشرفية” وأبرز المدافعين عن هذا التراث الانساني الوطني ان يصنف “صيد الشرافي” ضمن المهن الذكية والموروث الثقاقي اللامادي.
وبحسب الفهري، يرجع امتلاك البحر بجزيرة قرقنة إلى آلاف السنين، وقد استدل في ذلك ببعض النصوص التاريخية التي تعود إلى القرن الـ12 وما بعده والتي تشير إلى هجوم بعض الأهالي من خارج الجزيرة على قرقنة للاستيلاء على الممتلكات البحرية وقد اشتكى البحارة والمتصرفون في البحر أمرهم إلى الباي مراد الثاني (1662-1675) فأمر سنة 1662 بتحويل ما تعارف عليه أهالي جزيرة قرقنة بالملكية البحرية إلى ملكية مثبتة معترف بها لدى السلطة آنذاك.
وأوضح أنه منذ ذلك التاريخ أصبحت العائلات تسجّل ممتلكاتها البحرية مثلما تسجل ممتلكاتها من الأراضي في البرّ لدى عدول، مشيرا إلى أن أول إمضاء على وثيقة عقد الملكية الخاصة للبحر أو ما يعرف آنذاك بـ”التخنفيسة”، قامت به عائلة الشرفي وإليها تمت نسبة اسم الوثيقة الذي أطلق عليها اسم “الشرفية” والذي يرجح أيضا أنه أطلق على الوثيقة باعتبارها تمثّل شرفا للعائلة التي تملكها”.من ناحيتهم، ارجع عدد من البحارة من اصيلي جزيرة قرقنة تسمية “الشرافي” او “الشرفية” نسبة الى شرف هذه الوسيلة التقليدية في الصيد البحري التي اشتهرت بها جزيرة قرقنة منذ قرون وخلو منتوجها السمكي من كل شائبة او مواد كيمائية من شانها ان تضر بصحة الانسان …”سمك الشرافي” …منتوج باهض يكنه أهالي صفاقس جيّدا قيمته ولذته …يعتبر سمك “الشرافي” المحرك الاساسي للسوق رغم غلاء ثمنه بالنسبة لانواع السمك الاخرى، كما أن حرفاء الشرافي خاصون ومعروفون”, بحسب “سمير يحيى” بائع سمك مختص في “الشرافي” بالسوق البلدي للسمك بباب الجبلي وسط مدينة صفاقس، الذي أوضح، في هذا لصدد، أن سمك الشرافي يحلّ بسوق السمك يوميا في حدود الساعة التاسعة والنصف صباحا ليشهد معه هذا الاخير حركية من الحرفاء وذروة قصوى في عملية البيع تنتهي في حدود منتصف النهار مع نفاذ سمك الشرافي”.
وعن سرّ هذا الاقبال والتهافت على سمك “الشرافي” رغم ارتفاع ثمنه، قال عدد من الحرفاء في تصريحات متطابقة لـ”وات” إن “الشرافي هو حوت الصفاء ومشهود له بطبيعته ونقائه ولذة مذاقه فلا يجب ان ينفّرك غلاء ثمنه امام جودة ونوعية المنتوج الذي تعرف جزيرة قرقنة به، مضيفين أن ثمنه غال لكن “قدره عال” لدى أهالي صفاقس، وهو من ألذّ أنواع السمك التي بمجرد تذوقها لن يعلو على طعمها طعم أي نوع آخر من الأسماك، وفق تعبيرهم.”الشرفية ” … موروث ثقافي وطني ذو جودة عالية يستحق التثمين والإدراج ضمن التراث العالمي”الشرافي” او “الشرفية” … وسيلة الصيد التقليدية الضاربة في عمق تاريخ جزيرة قرقنة وتوجد حاليا في بعض المناطق الساحلية بالبلاد مثل “جرجيس” و”الشابة”، مهددة بالتلاشي والاندثار رغم جودة منتوجها السمكي كما بينته الشهادات السابقة، وذلك وبسبب ما يشهده بحارة هذه الطريقة التقليدية في الصيد من اشكاليات تحدّث عنها ربان صيد الاعماق ومساعد رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة والصيد البحري بصفاقس، محمد شلاقو، لـ”وات”.
وأبرز شلاقو أن العائق الكبير الذي يعاني منه البحارة المختصون في صيد الشرفية بجزيرة قرقنة يتمثّل في انعدام منحة الدعم لجريد النخل التي يتم اقتناؤها عادة من مدينة قابس لوضع سياج او ما يعرف بـ”رجل” الشرفية وتصنع منه “الدرينة” او ما يعرف ب”دار” السمك لتنظيف امعائها، وهو ما يدفع بالبحارة الى اللجوء إلى حل أقل كلفة وهو استعمال الدرينة البلاستيكية بما يؤثر سلبا على جودة المنتوج السمكي”.ودعا، في هذا السياق، الى مزيد الاعتناء بالشرفية والعمل على تصدير منتوجها السمكي من اجل اضفاء مزيد من النجاعة والمردودية على أداء البحارة، وتثمين هذا الموروث الثقافي الوطني اللامادي والاسراع بإدراجه ضمن التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو”.
وفي هذا الإطار، اكد عبد الحميد الفهري على ضرورة محافظة الدولة التونسية على خصوصية ملكية البحر في جزيرة قرقنة التي تعود الى عهد البايات وتندرج ضمن التراث الثقافي الوطني اللامادي، معتبرا أن الامر البيليكي لا يقل اهمية عن الامر الحكومي، وعليه وجب تثمين الصيد بالشرافي باعتباره طريقة صيد تقليدية نظيفة يمكن ادراجها ضمن المهن الذكية والعودة الى الايكولوجيا والطبيعة في إطار مراجعة كاملة للمنظومة البيئية”.
وات