رواد الفن التشكيلي بصفاقس : ذاكرة صامدة الى اليوم .. بقلم الباحثة و طالبة الدكتوراه جيهان القارة
الذاكرة الفنية لها طعم راسخ في عمق الممارسة التشكيلية حتى أنها انساقت نحو آليات “الدلالة الثقافية” ضمن العمل الفني أو الممارسة الفنية عامة عبر استدعاء التاريخ و الذي كان بمثابة الوشاح أو المطية الفنية التي توسل بها الفنان ذو الأصول “الصفاقسية” تحديدا لطرح أسئلة الراهن و لرسم خارطة الفن التشكيلي بمدينة صفاقس، كما أوضحت “الدلالة الثقافية” أن العمل الفني لا طالما ينبض بروح الماضي و إن كان قد قدم بصورة الحاضر و المستقبل فهي محاولة ترهين له عبر تلاقح يحقق للعمل الإضافة النوعية و الدلالية و لا يرهقه بجفاف الحاضر فإذا كان التاريخ مرجعا لفنان اليوم فانه يبقى هاجسا مستبدا بذهن الباحث عن خصوصية أبناء الجهة ممن كانوا يخطون بحروف من ذهب مسيرة فنية اصبحت مادة قابلة للبحث و التعمق لنصل لطرح سؤال معضلي ما حظ “صفاقس” من الأعمال التشكيلية و ما نسبة حضورها ؟ ا فلا يدل تضخم صور الماضي في حياة الفنان و إن اعتبرنا مسألة الجذور و الأصول ضمن حقل الذاكرة تعتبر نظاما متماسكا من التفكير في الواقع التشكيلي ؟
غالبا ما اعتبرنا أن العمل الفني يعكس فكرا وعمقا في الطرح والتناول على مستوى الثقافة والتقنية والتعبير الاستطيقي الدلالي. ومن أجل فهم خصوصية و ظروف تشكيل العمل الفني يجب علينا امتلاك مفاتيح و ثقافة واسعة متخصصة في نفس الوقت لبيئة الفنان و صانع ذاك العمل بهدف الوصول إلى قراءة صحيحة خالية الشوائب ونقد فني تذوقي في أعلى مستويات الفن والجمال. ومن المؤكد أن الفنون التشكيلية بصفاقس شهدت تغييرات جذرية في المفاهيم و الآراء والأشكال المنتجة قد تتجاوز ما تم إنتاجه خلال الفترات الماضية ، من حيث تنوع تلك الأساليب الفنية واتجاهاتها مع بروز مجموعة من خيرة خريجي مدرسة الفنون الجميلة بتونس امثال: سامي بن عامر ، الهاشمي الجمل ،خليل علولو ، رشيد الفخفاخ ، ….. وليس من السهل حوصلة ثمار الفن الحديث والمعاصر بصفاقس اليوم غير أننا على يقين أن الفنون لا تموت بل تحي من جديد عبر استعادة لاعمال فنية تبقى في الذاكرة . وفي النهاية يبقى العمل الفني الوحيد القادر على الصمود والبقاء بسبب ما فيه من قيم جمالية، وفكرية ورؤية تضمن استمراريته الذاكرية على مدار عقود كشاهد على قوة الفكر وعمق المعني .
تحاول هذه الورقة تقديم نموذج من الفنانين المخضرمين أولهم الفنان الهاشمي الجمل من خلال تحليل الأبعاد الجمالية والفلسفية لأعماله الخزفية وبشكل عام، سوف تسلط هذه الورقة الضوء حول أهمية الفكر وعمق المعني في الأعمال الفنية التشكيلية وعلى وجه الخصوص تحاول أن تتقاطع مع الأسئلة الآتية: ما هي أهم مصادر الألهام في أعماله الفنية؟ وكيف تظهر المعاني والأفكار والعلاقات الجمالية والفلسفية في أعمال الفنان الهاشمي الجمل؟، وبشكل عام تقريب المسافة بين الأفكار الأولى لأعمال هذا الفنان ومصادرها وبين مراحل التشكل الخزفي لتلك الأفكار في نصوص بصرية تعكس مباشرة المعنى والمضمون وصولا إلى المنتج النهائي للعمل الفني بهدف تقريب المسافة بين الفكر والشكل والمضمون والمعني كثقافة أساسية للممارسات الفنية للفنان اليوم.
الهاشمي الجمل : خزفيات برائحة الأثير
المادة الخزفية مادة من رحم الأرض ونسلها ،فن له من القدم ما جعله راسخا إلى يومنا هذا ،ينصاع إلى قوة الجذر ، قادر على الترويض و التشكيل المتناهي تختلط عبر المادة الطينية مع اليد فيتم تطويعه من خلال البحث المستمر عن قدرة المادة في التشكل وأيضا في اكاسيده التي تضفي عليه لمسة مختلفة و فريدة لتفاض في إثبات حضارة تراثه من خلال الابتداع و التجريد التقني التشكيلي مبينا هوية أرضه و في صورة أخرى إعادة الفنان لهوية التراث الماضي في صياغة حاضرة معاصرة و خير مرجع نستطيع العودة إليه الفنان الخزاف “الهاشمي الجمل” و هو يعتبر من ركائز و أعمدة الساحة الفنية التونسية اجري عدة تربصات و أقام مجموعة من المعارض الجماعية و الفردية إضافة الى العديد من المعارض الاخرى حيث يقول صديقه و رفيق دربه الخزاف التونسي محمد اليانقي في هذا السياق “عاش الهاشمي الخزف وعايشه منذ عدة عقود قضاها بين ارض الوطن وارض الفردوس تراث وحداثة ،صناعة تقليدية نهل من ينابيع البربر والعرب …تشبع بفن تونس وتراثها مزيج بين هذا وذاك ،طبق شهي …تستصيغها النفس وتحلق،تنضج بالدفء وتتفاعل فيها المواد ….تفاخر بثرائها وتصدع بثراء مرجعياتها .نهل من معين تراث البربر من وشمهم وعلاماتهم ورموزهم لتحل في لحم المادة الطينية فتسكن في أحشائها في أديم اللوح ” .
تجربة الهاشمي الجمل الخزفية تعبر بطريقة فطرية عن تصاهر بين التراث والحداثة، بين اللون والملمس تزاوج بين الناتئ والغائر، و مطية تتفاعل من خلاله المواد بفعل النيران كأنها نافذة تفتح على سفوح جبال بربرية جاءت وافدة من أعماق بعيدة تؤكد على أن التراث حي لا يفنى، لتأخذ رموزه موقعها على سطح الواح خزفياته من زخارف وأشكال هندسية و كأنما أراد المبدع الهاشمي الجمل أن يسرد اشاريا بدون كلمات قصة مكتوبة عملا بمثابة سرد تشكيلي عن حقبة زمنية ابتغى من خلالها أن يستنفر بها قوى المستقبل لإبراز هوية معاصرة للفن تأخذ انطباعا انفصاليا متميزا .ليرتقى بالخزف الحائطي من الزخرفي إلى اللوح الفني لوح مسطح وعميق فضاء واسع للتعبير ولاستثمار وتطوير الزخارف الموروثة حيث التقت إبداعاته بتراث الأجداد والأندلس حيث يقول الهاشمي الجمل “اقتبست جل أعمالي من الأعمال التقليدية…” وبفنانين أمثال خوان ميرو ارتيقاس و تابياس.
احتوت تجربة الهاشمي الجمل خصائص جمالية جاءت لتقدم تمظهرات جديدة لفن الخزف بتونس مخاطبة الحس والعقل، والبصر والبصيرة، ويمر بنا من قراءة العمل الى التفكير في عناصره ، بهذا النشاط المعرفي لنستخدم: الإدراك، التذكر، التخيل، والتفكير المنطقي في التعامل مع ما نراه وما ينتجه من خبرة جمالية، أو محتوى معرفي فتتوازن حركة عناصر العمل على سطح اللوح في تناسق و إيقاع زخارفه تتكاثف في زاوية لتخف في أخرى، تاركة للعين مساحة للراحة . “وتأسيساً على ذلك فإن الأسلوب هو كلية العمل، ونرى العمل فيه، كما نرى الإبداع من حيث هو عمل”.
أعطى الهاشمي الجمل محمل العمل أهمية كبيرة، أضفت على خزفياته طابعا مميزا تتراقص فيه الإشارات و الرموز الهندسية بطلاقة لتزودها المادة حضورا وبعدا جماليا إضافيا تتفاعل فيه مع محملها تصبح هذه الزخارف قطع طينية تعبر عن طريقة الفنان الخاصة في التفكير والشعور، و الأسلوب الصادق، يجب أن يكون ذو معنى و ليس مجرد طريقة يتعلمها من يشاء، لكنه يرتبط عند الجمل بالالهام الخاص الذي يدفعه إلى ممارسة العمل فريدا الابداعي والذي يشكل اللغة البصرية الخاصة به.
عادل مقديش :لوحات لحكايا شهرزادية
ان الدافع من هذه الورقة هو تقديم تحليل نظري متسق عن الصورة التشكيلية لخيرة ما قدمت صفاقس في الفن التشكيلي، بغية محاولة استرجاع اناس قدموا نتاجا بصريا نظريا و تطبيقيا ثري كان و مازال في وقت من الأوقات مرجعا له آلياته القرائية، يعود الى الثقافة والخبرة الفنية . و التي تساهم في استثارة الإحساس الجمالي للمتلقي، وفي تفجير طاقته مع ما تحمله من معلومات في الوقت ذاته، وما تتضمنه من إيحاءات ومعاني بقطع النظر عن التطورات و المتغيرات “يعني الاعتقاد بأصل الأنواع فيما يختص بالمجال الفني: أي بالتحول المستمر غير المحدود الذي يطرأ على أنماط أقدم ويحولها إلى أنماط أحدث عن طريق تغيرات صغيرة تدريجية أو طفرات أكبر”.
لا يمكن فصل صفاقس عن ابنها المبدع عادل مقديش فهو يعتبر علامة فارقة في ذاكرة الفن التشكيلي بصفاقس فبعد بداياته التجريدية انزاح الفنان التونسي عادل مقديش إلى الرسم السريالي فاستحضر بشكل كبير و ملفت الشخصيات الأسطورية الغرائبية، مشكلاً بذلك منعطفاً في تجربته الفنية الممتدة على ما يفوق الثلاثين عاماً ليصر على بصمته الفريدة و المستقلة و النابعة من مرجعية تاريخية ذات بعد تراثي تاريخي. فهو يقدم مفردات تشكيلية وجمالية تنهل من الحلم ومن قصص ألف ليلة و ليلة لتنجز مشروعاً تشكيليا لا يشابه أي عمل أخر، خالقاً عالماً مختلفاً متوغلا في التاريخ والتراث الشعبي.
العودة لأساطير والقصص الشعبية، حكايات الأبطال بموروثها الثقافي التاريخي تلك قصص أندلسية وأحلام إفريقية لكانها تجدد الحياة الأبدية كطائر الفينق فهي بذلك قوة جوهرية أخرى من تلك القوى الفائضة أبدا تلك التي تنبثق عنها (الشعر و الفن و الحكمة ) و تعبر عن نواحي شخصية الثقافة و هي في أبهى أشكالها و اغررها إقبالا على الحياة، و من هنا فان أعمال مقديش ليست فقط محاولة لصياغة روائية جديدة لأحداثها والنظر في تفاصيلها كحدثٍ ذي أبعاد فنية بل هي محاولة صريحة لكشف و إبراز الأبعاد الأسطورية التي بقيت غائمة في المخيال الشعبي دهورا طويلة ليرسم عادل مقديش صفحات الذاكرة الجماعية والشخصية ، وجمع أبطاله و شوارد عربية موغلة في ثقافتنا و تاريخنا العريق في ضفاف حلم يعبر حقبات زمنية مرت و ولت، و لكن المبدع عادل مقديش تمكن من أن يرسم لوحات بصيغة سردية تحلّق في مدارات ذاكرته البصريّة المتخيلة المتواترة ليبرهن على ان الموقف العتيد من قصص الأسطورة و إيحاءات الرموز الكائنة على القماشة هي جرد تاريخي لفهم الماضي . يقول مقديش: “لـي ذكرى أليمة مع الروم والأتراك والإسبان وقبائل بني هلال الزاحفة ولي أيضا معاناة مع الإفرنج” . انه استغوار للاقاص الغائرة في عتمات الزمن و هو في الوقت نفسه حفر في صخور التراث ليضيف: “أرسم خصوبة عليســة على جلود البقر المقدّس، أنحت وجه جـوغرتا في أسواق الفرس البربرية، حفرت على جدران المعابد الإفريقية رسم السفن الساحلية وأشرعتها المنسوجة بشعر النساء، كل رسم لي ومضة برق في السماء الأفريقية، وأجراس الخيول الآتية تعزف خيوط الألوان لولبية على كف أندلسية في ليلة زفافها”.
عبر الفنان عن الفكرة برموز وصور نابعة من الذاكرة الذهنية لشخص الفنان أو عن ذاكرة شعبية جماعية متخيلة لذلك ارتبط العمل الفني عند عادل مقديش بترجمة رموزه اصطلاحيا مما تحويه من لازمات الخيال الشكلية و اللونية مع محتوى العالم الداخلي و قوة اللاشعور لديه ، حيث تصبح غاية الرمزية في اعماله تكمن في تحقيق عمق التراث المحلي و الانسجام و علو القيمة الجمالية و يصنع بذلك عالما تحكمه التصورات الهجينة الماورائية، تشابه و تحايث الرؤى السريالية في رسم أبطال الحكايات “الشهرزادية” فلا يشبههم أحد، عيون حالمة تروي الرواية بكل تفاصيلها وشفاه صغيرة لا تنبس ببنت شفة أجساد ممشوقة وأياد متطاولة تمسك باحلام و مخيلة المشاهد. يقول مقديش: “أنطلـق في رسوماتي من مثيولوجيات ومن أساطــير شعبيـــة ومــن خرافات الطفولة ومن اللاوعي الجماعي، ومن فزع التمزق الذاتي بين الحلم والواقع وبين التقسيم الزمني في محاولة لتوحيدها في واقع واحد حيث تلتحـم كل مقومـات ومـدارك الـذات في تعاملها الديناميكي مع المحيط المتحرك”.
لم يغفل عادل مقديش عن الحرف و انسياقه الطري المطوع فتتجاوز الكتابة محتواها الدلالي لتنساق نحو جسر المكانة الجمالية و المكون التشكيلي التعبيري ليصبح الحرف ايقونة مجسدة و كانها جسد راقص يتمايل في نسق ايقاعي اسلوبي فريد. فيقول : “ان هذا الحضور التشخيصي للحرف ليس أبداً حضورا للغة، بل تغييب لها بمعناها الحقيقي، واحتفاءً لا بجوهرها وإنما بجانبها المادي المحسوس بصرياً فالشخوص في اللوحات هم الرواة الوحيدين لما يجري داخل اللوحة.”
انتهج عادل مقديش منهجا فنيا تشخيصيا متفردا يعتمد على تخيل موروث شفوي لينقل شخوص سير بني هلال معتمدا على البعد الغرائبي المميز للمنمنمات. كما أنه يبحث عن وصف جمالها من خلال الرسم الخطي وبنية الجسد المتخيل ورغم دقة الخطوط وتجانسها وإتقان رسم تفاصيل وجه المرأة والعيون الواسعة وإتقان الزخارف والخط العربي فإن الأثر الفني مخزن لخيال الفنان الطفولي الذي استحضره في رسم خرافات سمع عنها في صغره.
خليل علولو: ذاكرة صفاقس التي لا تموت
لا يمكن ان نمضي دون استحضار روح فقيد الفن التشكيلي بصفاقس الرسام خليل علولو.
و يتوجب علينا اولا تاسيس نوع من التصنيف الفني و هو انتماءه الى حركة الرسامين الطلائعيين انطلق بعرض أعماله انطلاقا من سنوات الستينات إلى جانب ثلة من الفنانين امثال المسطاري شقرون، لطفي الأرناؤوط، عبد الرزاق الساحلي وغيرهم ممن سعوا الى توضيح و ارساء ملامح الفن التونسي المعاصر، و لعل اكثر القراءات و الكتابات التي تناولت تجربة الفنان خليل علولو كتابات الاكاديمي و الرسام خليل قويعة الذي قال: “خليل علولو هو أحد الرواد التونسيين في مجال تحديث الخطاب التشكيلي فقد ساهم منذ اواسط الستينات في صياغة ثقافة اللغة التجريدية المبتكرة ونشر ثقافة الاستقلالية الجمالية للعمل الفني” ان كل نشاط عملي حققه الرسام خليل علولو يتحقق على صورة اعمال متواصلة تنجر على التعاقب فينشا منها احساس بنمو المعنى و استمراره و تزايده و اتجاهه نحو غاية تمرير المفاهيم الكبرى التي تحقق تباعا نشاطا جماليا تشكيليا كالتركيب و التاويل…
و قد دأب العديد من الفنانين الشبان السير حذوه و مناجاة افكاره أمثال ماهر مظفر هشام، بلغيث ورياض بوعصيدة وسمير التريكي وأنور عشيرة، وليد الزواري،…و على ارجاع عملية التعبير لدى خليل علولو الى فعل الالهام عن طريق وسائط موضوعية .
اضافة الى ما سبق فان خليل علولو ساهم في اثراء الحركة التشكيلية عبر مجموعة من الاعمال ذات الرؤية المتطلعة و المتفتحة نحو التطور و التجديد فهو قد بدا العمل على إرساء نمط فني حديث يعتمد من خلاله على تفهم حتمية البحث عن حلول بصرية جديدة لشكل التجربة التشكيلية التقليدية إذ حاول إيجاد صيغة خاصة به تحتوي لمسته الفنية الخاصة و تشكيل نمط فني متفرد و ان كنا كطلبة و باحثين لم نأخذ حظنا من فنه. فقد فضل خليل علولو الانغماس الذاتي في إنتاج أعماله الزيتية في صمت و في الظل حتى انه لا يعتبر من النشيطين على مستوى المشاركات منذ 1987، و مشاركته في معرض “البرج” صحبة رفاقه الهاشمي الجمل ومحمد اليانقي و رؤوف الكراي وبعد مساهمته في تأسيس المعرض السنوي للفن التشكيلي بصفاقس، حيث اكتفى بحضور محتشم في المعارض الجماعية وخاصة بالخارج وبألمانيا تحديدا.
“لقد ولدت فكرة الفن التجريدي في لحظة وجد و دهشة كاللحظات التي يقف فيها الانسان امام شيء رائع الجمال في الطبيعة مثل الغروب انه مجموعة من الالوان وو الاضواء تتسرب الى نفوسنا فنتشبع بها” هذا ما قاله كاندنسكي و هو ما خالج ايضا خليل علولو عندما اختار تجربة الفن التجريدي الذي كان من رواده الجدد في الستينات،امثال الهادي التركي، الحبيب شبيل، اسماعيل بن فرج وغيرهم و لقد كان تواقا لمعالجة الامور التي لا يقيدها موضوع و سرعان ما ادر كان الفن وحده الذي يستطيع ان يقوده الى ما وراء اللون و الخط و الشكل او ما وراء الزمن و المكان .
لوحات تميزت من حيث البناء و كثافة المادة او الحركة في رسم اللطخات الونية التي اتسمت بالعنف و الفوضى تارة و باللين و النظام تارة اخرى لتصل الى بناء فوضى تنطوي على روابط انسجام خفية و لم تكن لوحاته مجرد تفجرات داخلية بل هي محاولة للتعبير الفطري عن القوى التي تتجاوز قوة الفنان الذاتية اخذت لوحاته تكتسب طابعا ذاتيا تميز بالشفافية و الواقع ان المقومات الاصولية للوحاته تتركز في في اشعة من النور تخلق بتداخلها جوا من الصفاء و الخيال و هو يوزع الوانه الاثيرية في رؤى مفعمة بالايقاعات الهادئة.
سامي بن عامر: حفريات لونية
من اهم رواد الذاكرة الفنية بصفاقس الفنان سامي بن عامر و هو من مواليد 1954 بمدينة صفاقس ، يعمل أستاذ تعليم عال بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس، حاصل على إجازة في الفنون التشكيلية بالمعهد التكنولوجي للفنون والهندسة المعمارية والتعمير بتونس، وعلى دكتوراه مرحلة ثالثة اختصاص فنون تشكيلية، نظري وتطبيقي، بجامعة باريس1 «بنتيون سربون»، وعلى التأهيل الجامعي في الفنون التشكيلية. (جامعة تونس).انتخب خلال ثلاث دورات متتالية (1999 – 2001- 2004). أمينا عاما لاتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين حيث أسس رفقة أعضاء الهيئات التي اشتغل معها هيكلة إدارية للاتحاد سمحت بتفعيل دوره على الساحة الثقافية. كما انه عضو بالهيئة المديرة للمهرجان الدولي للفنون التشكيلية بالمحرس. أنجز عدة معارض شخصية في تونس، كما شارك في عدة معارض دولية، وله مؤلف بعنوان: “الفنون الجميلة: الاصطلاح وموقعه من الفكر الحديث”، كما له مقالات علمية متعددة نشرت بمجلات مختصة. كما شارك في تأليف أربعة كتب، “دليل المعلم” في مجال تدريس مادة التربية التشكيلية في التعليم الأساسي.
ان العمل الفني يجب ان لا يسخر لتجسيد فكرة محددة بل يجب ان يستجيب الى النوازع الاكثر عمقا و غموضا في النفس لذلك فان الفنان سامي بن عامر تمكنمن ان يعرف سلفا حدود لوحته و يستطيع ان يتنبا بها ليصل لفكرة التلقائية الادائية فيطلق الخط و اللون مداهما سطح العمل خالقا حالة من تحريف الأشكال الأساسية عن أوضاعه الاصلية الفطرية ليمضي في مغامرة فنية لا يعرف نهايتها. ان خطة الابداع عند سامي بن عامر ترتكز على جانب الشكل والفكرة. عليه نستنتج، ان الصورة التشكيلية تحتل جوهر لحظة ما وتجعلها دائمة وذلك عبر استثارة الإحساس الجمالي للمتلقي، وتفجير طاقته لما تحمله الصورة من معاني كبيرة سلبية كانت أم ايجابية ..
اما المادة التي تستخدم في التلوين تشتمل على الإحساس البصري المترتب على اختلاف التموجات و الفويرقات اللونية التي تسببت فيها اثار الفرشاة المدماة باللون وهو المظهر الخارجي الملمسي للشكل وأن كان الشكل لا يمكن رؤيته أو إدراكه إلا باعتبار أنه لون . ويرتبط المعتم والمضيء بلون اللطخة وقيمتها السطحية، وفق عملية ونظام يراعي فيه الفنان التوافق والتباين والتوازن بين مساحات القيم اللونية والمعتم والمضيء، بالتحول والتدرج والتوليف والتعاقب بين الفاتح والقاتم. مما يعطي إحساساً جميلاً في المساحة المحددة . أما التعبير الدلالي عن ماهية اللون الاستطيقية فهو الإفصاح عن المعاني بلغة الشكل، وكل شكل له معنى، يتولد هذا الشكل بتجاور الأشكال وترابطها مع بعضها البعض. فعبقرية الفنان ليس في أن ينقل الواقع، بل في أن يعبر عن ذلك الواقع ويعتمد سامي بن عامر في أعماله، تقنيا مختلفة و متعددة كالتغطية ثم النبش والتنقيب في لوحاته التصويرية ليبرز “تلك الحفريات التشكيلية من طبقاته الأرضية الترابية والورقية والعجائنية المتراكمة كما في لوحته “تراكم” 2007. فنبشًا وحفرًا ينتجا معرفة فنية وبحثًا واستكشافًا لحفريات حاملة لخصوصية التشكيل اللامتوقع في إطار مبحث “أركيولوجي” تشكيلي هادف”.
ونلحظ هذه الميزة من بين أعماله “أصلي”، “حفريات” 2008 وكذلك “تشبث”، “تنقيب” 2015، عناوين تثير التساؤل عن حنين الفنان للماضي و استرجاع الذكريات و نبشها والبحث عبر مطيتها عن إطار الممارسة المعاصرة التي تلامس بصورة فلسفية المجال التاريخي الاركيولوجي لعلم الحفريات او التنقيب الاثري و هو عود الى ماهو تراثي حضاري يلامس المادة الصخرية او الهيكلية لعالم يجب ان ينفض عليه الغبار.
رشيد الفخفاخ: المربع السحري بين التشكيل و التصوف
أما رشيد الفخفاخ فقد كان من بين ابرز الفاعلين في الحركة الفنية بصفاقس تحصل سنة 1973، على الأستاذية في الفنون التشكيلية اختصاص نحت المعهد التكنولوجي للفنون والهندسة المعمارية والتعمير، تونس(جائزة سيادة رئيس الجمهورية) اشتغل سنة 1974 كمدرس بالمعهد التكنولوجي للفنون والهندسة المعمارية والتعمير، تونس و سنة 1975الأستاذية المتخصصة في الجمالية وعلوم الفن جامعة باريس 1 السربون اما في سنة 1976 و سنة 1978، عمل كباحث ملحق بالمركز الوطني للبحوث العلمية باريس قسم الجمالية التجريبية كما قدم العديد من المشاركات في المعارض السنوية للفن التونسي المعاصر بصفاقس
اتخذ رشيد الفخفاخ في بدايته “المربع السحري” او ما يسمى “الاوفاق السحرية” الذي عد ايضا كقاعدة تاليفية نسبية للعديد من الموتيفات الزخرفية و الكوفية فهي عبارة عن خطوط مشابهة لخطوط الكوفي القريبة للاشكال الهندسية في محاولة لاعطائها بعض السمات الروحية التصوفية و في ذلك استدراك للحلم الماورائي التجريدي. اعتمد الفنان رشيد الفخفاخ على عنصر التواتر اللوني خالقا بذلك جوا و طابعا ايقاعيا بنائيا متفردا على مساحة التكوين الفني كما انه استطاع ان يوظف اللون بتماثل حقق عبر مطيته الاتزان و الذي من خلال استخدامه لدرجات لونية متعددة و ظهرت هذه الايقاعات و كانها مساحات لونية متراقصة .
ان للمربع محمولات رمزية تخفي في ثناياها فعلا فلسفيا داخلها، وإن تواشجت واتحدت مع فعل دال أو تشكيل ايقوني، أو حتى أشارة تجريدية فانها تنقلنا الى طفرة تركيبية و لونية غرائبية تخرج عن صيغتها الحكائية السردية لماهو موجود في الطبيعة، لتتشكل صور بما تختزنه تلك الدلالة من ذاكرة، كما في بعض التعريفات أو القياسات الشعبية، أو ارتباطات خاصة بالذاكرة التصوفية كما ان الصيغة اللونية ذات بنية ايحائية تزج المشاهد داخل مبنى تأويلي يحقق الفرادة الابداعية للفنان، في بناء تلك المعادلات الحسابية بكل تشكيلاتها الدلالية ، فاللون يعطي ربما ايحاءا زمنيا يحرك تلك الاشكال اللازمنية مع ما يحققه الايقاع داخل اللوحة بمستويات معينة يخلق فعلا زمنيا حركيا، يتواشج مع حركية الخطوط التي تحدد المبنى الصوري للوحة.
إن التحولات الشكلانية في الممارسات الفنية بصفاقس جعلت عملية الجرد التاريخي قد تبدو مستحيلة بل أصبحت تأخذ شيئا فشيئا اتجاهات الشخصنة في الممارسة ذاتها وصولا إلى حالات البحث عن خصوصية اسلوبية فريدة مما سبب تهجنا في أشكال الفن المتنوعة ما بين الرسم ، النحت و الخزف . وفي خضم التداخلات والتحولات الفنية للنصوص البصرية المقدمة من الفنانين اليوم، يبقى الباحث في حاجة ماسة لفهم مضامين ودلالات الأعمال الفنية انطلاقا من فهم حقيقي لماهية العمل الفني ومصادر الإلهام فيه ونتائجه كمنتج بصري متكامل له كيانه المادي والمعنوي. وبعيدا عن ما وصل إليه الفنان “الصفاقسي” اليوم من تحولات في النص البصري، تحاول هذه الورقة تعميق ثقافة وفكر الفنان الممارس انطلاقا من تاريخية الفن في صفاقس هذا إذا ما اعتبرنا أن العمل الفني مهما كان نوعه أو جنسه هو لغة فكر و ذو معنى لها دلالاتها التشكيلية العميقة وذلك من خلال تحليل أعمال فنية معاصرة حافظت على شكلها الكلاسيكي التقليدي في مجال النحت او الرسم او الخزف وقدمت جماليات فنية وفلسفية عميقة رغم التحولات البصرية وجدلية العلاقة بين الشكل والمضمون من جهة وبين المرئي و اللامرئي في الفنون التشكيلية.
رواد الفن التشكيلي بصفاقس : ذاكرة صامدة الى اليوم
الباحثة و طالبة الدكتوراه جيهان القارة