إصلاح المنظومة الصحية في تونس : بقلم الأستاذ الدكتور زهير خماخم
1- المقدمة:
يعتبر قطاع الصحة في تونس من القطاعات النموذجية و الثابتة في تونس ما بعد الاستقلال سنة 1956.
تم إحداث أغلب المستشفيات الجامعية و الأربعة كليات للطب و جملة القوانين المنظمة للصحة في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة 1957-1987.
بين سنوات 1987 و 2010 في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ثم تنقيح بعض القوانين مثل قانوني 1991 المنظمة لمهني الأطباء و أطباء الأسنان و لقطاع الصحة و الأمر عدد 1155 لسنة 1993 و المطورة نوعا ما لمجلة واجبات الطبيب التي أحدثت أول مرة سنة 1973.
و مما يميز زمن الرئيس بن علي هو إحداث المستشفى العسكري بتونس و الذي جاء مدعما للمستشفيات العمومية الاستشفائية الجامعية بتونس العاصمة و خاصة منها مستشفيات شارل نيكول و الرابطة…
أما بعد الثورة التونسية التي حصلت بين فترتي 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011، لم نر تطور لا للتشريعات و لا للقوانين و لا للمعايير البشرية و اللوجستية في القطاع، بل تدهور الوضع، بل و زاد سوءا مع تغول الإدارة الصحية غير الصحية و تغير مظهر النقابات و خاصة منها للإطار شبه الطبي و أصبح جسد القطاع الصحي من أطباء و إطار شبه طبي و عملة في القطاع مباحا للزائرين المنتقمين على الوضع شبه بائس و شبه المنهار في هذا القطاع.
و جاء بريق الأمل في المستشفيات العسكرية و خاصة منها بتونس العاصمة لتحافظ على بريقها و نظافتها و حسن أدائها مما دفع و حسنا فعل الرئيس الحالي المنتخب الأستاذ في القانون الدستوري قيس سعيد لدمج المستشفى الجامعي الجديد بصفاقس، و هو هبة من جمهورية الصين الشعبية الصديقة لتونس في بعث و تشييد المشاريع العملاقة في تونس على غرار الحزام الواقي من الفيضانات في صفاقس سنة 1982، دمجه بالمؤسسة الصحية العسكرية لحسن انضباط هته المؤسسة العريقة في تونس.
2- إصلاح النظام الداخلي للمستشفيات العمومية:
يقوم النظام الداخلي المنظم للمستشفيات العمومية على أمر قديم يعود للعهد البورقيبي أي سنة 1981.
و نجد في هذا الأمر الذي بقي نافذا إلى بداية سنة 2021 أي عمره أربعين سنة كاملة، بالرغم ما فيه من نقائص لا تحصى و لا تعد و من بينها خاصة إفراد رئيس القسم الطبي و الناظر شبه الطبي للإستحواذ على جميع الخطط و المراتب الطبية و شبه الطبية و دفع هذا المرفق للدكتاتورية و مما ينجر عنها من محسوبيات مقيتة بالرغم من انتمائها للقطاع العام و ليس للقطاع الخاص…
و ما يزيد من ضعف هذا الأمر الصادر سنة 1981 ليس فقط تهميش القطاعين الطبي و شبه الطبي، بل و أيضا إعطاء الإدارة و التي لا تنتمي قط للقطاع الصحي في التغول على حساب الأطباء و الإطار الشبه الطبي و بالطبع باستثناء رؤساء الأقسام و ناظريهم المختارين مباشرة من هؤلاء الرؤساء المعينين بالأقدمية، بدون معايير كفاءة و بدون أية متابعة أو تقييم موضوعي من أي جهة كانت و حتى من طرف سلطة الإشراف أي وزارة الصحة…
3- تطوير القوانين المنظمة للقطاع:
يعتبر القانونين المنظمين للصحة و الأطباء و مهنة الطب سنة 1991 قوانين بعثت منذ ثلاثين سنة و لا تستجيب حاليا لا للمعايير العلمية و لا الأخلاقية و لا حتى التنظيمية البحتة من ناحية الإدارة الصحية السليمة و المستجيبة لقواعد الجودة و السلامة و الحفاظ على البيئة…
و نجد مجلة واجبات الطبيب المحدثة سنة 1973 و المنقحة في سنة 1993 لا تستجيب حاليا للعديد من الخصائص و التطورات الطبية التي حصلت في الثلاثة عقود الأخيرة و في هذا الخصوص لا نجد أي تدعيم لمسألة التبرع و أخذ و زرع الأعظاء في تونس بالرغم من القانون الرائد في المجال سنة 1991 و الذي هو بدوره قديما و مدعوا للمراجعة التفصيلية و لا نجد أيضا فصولا عن المسائل المتعلقة بحفظ كرامة و جسد الإنسان في المراحل العلاجية في آخر حياته و وجوب مرافقته الكريمة حتى الوفاة…و لا نجد مسألة الجواب عن الموت الرحيم أو عن التهافت العلاجي… و لا نجد حديثا أو فصولا عن إمكانية الشراكة بين القطاعين الصحيين العام و الخاص بالرغم من وجود نصوص تشريعية منظمة لإمكانيتها بمقتضى أمرين سنتي 1995 و 2007 و هي يتيمة و في اتجاه واحد من القطاع العام للقطاع الخاص فقط و بها العديد من التجاوزات و الخروقات و خاصة منها بواسطة رؤساء الأقسام المبجلين مدى الحياة، على مرأى و مسمع سلطة الإشراف و النقابات الصحية و حتى عمادات الأطباء الجهوية و الوطنية…
4- تقليل التبعية للإدارة الصحية و تطوير الرؤية:
كانت و لا زالت إدارة المستشفيات بيد إطارات مدرسة الإدارة التونسية و بعض أسلاك شعب التصرف و المالية، بدون أي استنجاد للعنصر الأبرز و المحوري و هو الطبي و الإطار شبه الطبي و هو ما كان مكبلا حقا و حبفا صارخا لهته المنظومة الصحية التي تصطرخ في شتى المسائل و خاصة منها العنف المتنامي نحو الأطباء و الممرضين و الإطار شبه الطبي و خاصة في فترات العطل و حصص الإستمرار بدون أي مجيب و ذلك نظرا للفجوة الحاصلة بين الإدارة الصحية و للتي ليس لها من الصحة إلا المكاتب و التشريفات و مقرات وزارة الصحة و بين أعوان الصحة الحقيقيين من أطباء و إطار شبه طبيو هم أهل الميدان و أهل الإختصاص، فهل من صحوة للدولة التونسية و خاصة بعد الثورة لحل هذا اللغز و المعضلة الأزلية و التي زادت تفقيرا لقوة الطبيب و العون الصحي من تهميش و حتى عزله تحت أي طائل إداري…
فمن الحاكم و من المحكوم في شأن المستشفيات العمومية هل هو عون الصحة من طبيب و إطار شبه طبي أم عون الإدارة و الذي لا يلتفت ساكنا لشتى المسائل الترتيبية في المهنة و للأسف الشديد و حتى المقيت…
5- تحليل الفلسفة النقابية:
منذ انبعاث النقابة المدافعة على منظوريها على يد المرحوم محمد علي الحامي و الشهيد فرحات حشاد فلا زالت هته المؤسسة داعمة لحقوق العملة و منها في القطاع الصحي.
و لكن و للأسف و بعد الثور سنة 2011 و من خلال ضعف مؤسسات الدولة التونسية، أخذت هته النقابات و للأسف عن الزيغ عن مسارها و التغول في العديد من المسائل و منها كثرة التعيينات المجحفة و خاصة منها لأبناء و أحباء النقابيين و الاستحواذ على نصيب من الكاسب المالية لإدارة لتقسيطها على لقطاع شبه الطبي بصفة غير عادلة و بها جملة من معايير المحاباة مع إمكانية إقصاء بعض الأعوان من مستحقاتهم، إن كان فيها جانبا قانونيا من هذا الاستحقاق…
أما نقابة الطباء فجاءت بدورها داعمة لمنظوريها أي الأطباء النقابيين لتمنحهم هدايا التعيينات المشبوهة و حصص الإستمرار باهظة الثمن في المناطق النائية لبعض الإختصاصات الطبية و بعض الأطباء فقط دون غيرهم…
6- إتباع نموذج الصحة العسكرية:
و في كل هذا من زيغ و انحراف و عدم احترام للقوانين المنظمة لمهنة الطب و الإطار شبه الطبي، تبين لنا أن النموذج الحالي و المتعلق بالصحة العسكرية في تونس هو الأفضل حاليا من حيث احترام قواعد إدارة الصحة من جودة و سلامة و احترام للبيئة و من احترام لواجبات و أخلاقيات أعوان الصحة و التي تزيدهم انضباطا كونهم ينتمون لمؤسسة عسكرية بعيدة عن شبهات الإدارة و النقابة و تغول بعض رؤساء الأقسام و بعض الإداريين القدامي و التي يمكن فيها مشاهدة رئيس قسم منذ زمن بورقيبة أي أكثر من ثلاثة و ثلاثين سنة أو أنه يحم في عقده الرابع للحكم و كأنه في شركة خاصة و هو رئيسها الأزلي و ا أسفاه على أطبائنا و إطارتنا شبه الطبية من هته الدكتاتورية داخل المنظومة العمومية بصفة غير عقلانية و غير منطقية و غير علمية و غير أخلاقية، و لا نجد داعما لها إلا نصوصا ترتيبية قديمة و تعيسة أكل عليها الدهر و شرب…
7- إحداث شراكة بين القطاعين العام و الخاص:
كما قلنا سابقا نجد نصوصا تشريعية بائسة سنوات 1995 و 2007 تعطي الأحقية في النشاط التكميلي لفائدة بعض الأطباء و بعض الإختصاصات دون سواهم و في اتجاه واحد من القطاع العام للقطاع الخاص، و هو لعمري من أشد شبهات الفساد في القطاع الصحي العمومي، حيث و لهذا السبب تقوت الإدارة و النقابة لضعف سند الأطباء لوجود هته المعضلة و الكارثة المادية و لتفطن هذين الشريكين لوجود ملفات عديدة لشبهات فساد و إخلالات عديدة و يقوم بها خاصة رؤساء الأقسام و خاصة منهم الاستشفائيين الجامعيين، بحيث أنهم جمعوا بين الشهرة في القطاع العام و المال في القطاع الخاص، تحت غطائي الإدارة الساكتة و النقابة الغاضبة، بل هما الشريكين المستفيدين من تقهقر الوضع الهيكلي للطبيب الذي أخذته الدنيا في شكل مسدي خدمات صحية في القطاعين الخاص و العام على سواء بدون هوادة و بدون أي مسائلة و بدون أي تعطيل من أي جانب و ذلك نظرا لوجود مظلة قانونية بائسة و مهترئة و غير أخلاقية في حمايتهم و للأسف…
و ما عليكم معشر السلطة التنفيذية و التشريعية في البلاد التونسية إلا مساألتي أو بالأخرى جلب جميع الملفات و الشكايات المضمنة بالعمادات الجهوية و العمادة الوطنية للأطباء للإجابة على جملة هته المسائل و التي ترتقي في معظمها لمادة المسؤولية الطبية القضائية في موادها الجزائية و المدنية و الإدارية إن لم نقل للمهنة غير القانونية للطب و التي بقع زجرها نظريا بسنتين سجن حسب القانون المنظم للمهنة الصار بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية سنة 1991.
8- الخاتمة:
لا بد لنا أن نحيي مؤسسة الصحة العمومية في تونس بالرغم ما بها من إخلالات جسيمة ترتقي للمسؤولية الطبية الشرعية، تحية تبجيل و خاصة في هذا الظرف الصعب من جائحة كوفيد-19 و التي أتت على الأخضر و اليابس في القطاع الصحي و أظهرت ما به من عورات و شبهات فساد.
و لا بد من مراجعة النصوص القانونية و التشريعية و مراجعة نسبة ميزانية الدولة التونسية لقطاع الصحة لإنعاشه و إرجاعه لمجده و عنفوان شبابه و تصحيح مساره نحو التألق و الازدهار و النهوض بالصحة الفردية و الأسرية و المجتمعية على السواء.
الأستاذ الدكتور زهير خماخم
أستاذ استشفائي جامعي في الطب الشرعي و القانون الطبي و الأخلاقيات الطبية
كلية الطب بصفاقس – جامعة صفاقس – الجمهورية التونسية
البريد الرقمي: zouhirkhemkhem@gmail.com