وجع البطالة ينهك بنية المجتمع التونسي : بقلم جيهان مقني
رغم أنها تعبيرة اقتصادية ودليل على مدى نجاح أو فشل منوال تنموي معين، تمثل البطالة في نفس الوقت ظاهرة اجتماعية لا يخلو منها بلد. وانطلاقا من كونها نتيجة حتمية لعدم قدرة أي نظام إنتاجي على تلبية كل مطالب الشغل
واستيعاب كل المعطلين، إلا أن الفرق بين هذه البلدان يتحدد وفق حجم هذه الظاهر، وطرق التعامل معها، والحد منها قبل تفاقمها وتحولها إلى كارثة اجتماعية تنهك بنية المجتمع وتفتك بها. وما ينبئ بالخطر هو تواتر وتعاظم البطالة في تونس والتي تحولت إلى معضلة حقيقية تهدد السلم الاجتماعي، وتعطل عجلة الإنتاج، ودواليب الاقتصاد بشكل ملحوظ خاصة في المناطق المهمشة والفقيرة.
تونس : ارفع نسبة عالمية في بطالة اصحاب الشهائد
وصلت معدلات البطالة قبل الثورة في تونس خاصة في صفوف حاملي الشهائد العليا إلى 18% لتبلغ 33% سنة 2015 وهي ارفع نسبة عالميا مما يعني أن أكثر من ثلث الطاقة الشبابية للمجتمع معطلة ومهمشة وعرضة لكل أصناف الضياع والانحراف والإرهاب. ونخص بالذكر مناطق الشمال الغربي والجنوب الغربي. ويعتبر هذا الواقع نتاج طبيعي وحتمي لخيارات اقتصادية غير مدروسة لم تراهن فيها الدولة على القطاع الخاص بجدية ولم تسع لتشجيع المؤسسات الصناعية على الانخراط الفعلي في العملية التنموية والتوصل لبناء اقتصاد وطني إنتاجي قائم على النهوض بالصناعة والفلاحة والخدمات. وتتلخص أهم نتائج هذا التوجه المعوج في ثلاث جوانب:
أولا- جانب اقتصادي
يتمثل في فتح حدود البلاد أمام الاستثمارات الأجنبية مع توجه هذا الاستثمار إلى القطاعات التركيبية والخدماتية ذات القيمة المضافة المتدنية والطاقة التشغيلية الغير متخصصة ومحدودة المهارات. أضف إلى ذلك تهميش القطاع الفلاحي وهو القطاع الأكثر تشغيلية نظريا، مع تركيز منظومة جبائية غير عادلة مشجعة على التهرب الضريبي ، وخادمة لرأس المال الكلاسيكي الذي لا يستثمر لا في التكنولوجيا ولا في الابتكار.
ثانيا – الجانب الإداري
وذلك من خلال تركيز نظام إداري بيروقراطي تميز بسلطة المكتب وتعقد الإجراءات، مما سهل ومهد لتفشي الفساد والمحسوبية فحوّل الإدارة إلى مصدر للارتشاء لبيع وشراء مواقع العمل.
ثالثا- الجانب التربوي
وتنحصر هذه النتائج في تهميش المنظومة التربوية التي يفترض أن تكون صمام الأمان لتطور البنية الفكرية والإنتاجية داخل المجتمع. و كانت النتيجة حتما كارثية تتلخص في القطيعة الموجودة بين مؤهلات حاملي الشهائد العليا ومتطلبات سوق الشغل، علاوة على تهميش منظومة التكوين المهني وتشويه المستوى المعرفي لكل الشباب.
كل هذه المعطيات نتج عنها عدم مواكبة المنظومة الإنتاجية والتحولات العميقة لمجالات الإنتاج والتكنولوجيات الحديثة وأفرزت هذه الوضعية لا محالة أثارا سلبية كبيرة ومباشرة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي أهم ملامحها نسبة الفقر المرتفعة والتي ناهزت 25 % استشراء الفساد وتغوّل المافيا ودخول المجتمع رويدا رويدا في مرحلة الجريمة المنظمة والهجرة السرية والإرهاب، ومن شان ذلك أن يهتز كيان الدولة، وتتفتت سلطة مؤسستها وهياكلها. وحادثة “باتروفاك ” مؤخرا هي خير دليل على ذلك.
رغم كل ذلك تبقى الحلول موجودة إذا توفرت الإرادة السياسية لتجاوز هذه المرحلة الحرجة وذلك بالاعتماد على منهج إستراتيجية مدروسة تتمثل في الإجراءات التالية:
1 – دعم المبادرات الخاصة وتمكين العاطلين ذوي الدخل الضعيف من الحصول على قروض صغرى وقروض تضامنية لبعث مشاريع صغيرة مما يخلق دينامكية محلية في جهاتهم الداخلية ويسهّل إدماجهم في الدورة الاقتصادية
وهذا يعزز تشبث هذه الفئة بموارد وإمكانيات مناطقهم في إطار إستراتيجية وطنية للتنمية المستدامة.
2- تأهيل ومساندة مؤسسات النسيج الصناعي ودعم قدرتها التنافسية وذلك بتقديم حوافز جبائية واجتماعية وقمرقية
3- دفع رأس المال الوطني للاستثمار في القطاعات الحيوية التي تنتج ثروة فعلية وتعتمد على الرأس المال البشري والمهارات الذهنية كعنصر أساسي في الدورة الإنتاجية.
4- استقطاب الكفاءات التونسية بالخارج والاستثمار في تكنولوجيات الاتصال كقطاع يعتمد على الابتكار والتجديد والبحث العلمي والتوجه أكثر نحو الاقتصاد اللامادي.
5- العمل على إرساء شراكة حقيقية وجادة بين القطاع العام والقطاع الخاص.
6- إعطاء الأهمية القصوى للتنمية البشرية وصناعة القيادات الشابة بالتوازي مع القيادات ذات الخبرة كعنصر أساسي في كل المؤسسات الاقتصادية مع تحفيز حكومي في مجال البحث العلمي والتطوير الصناعي.
7- الاعتماد على منظومة النقل التكنولوجي كمرحلة أولى واستراد التكنولوجيا الأجنبية ثم استيعاب هذه التكنولوجيا والتحكم فيها وتطويرها، ومن ذلك المرور إلى التجديد التكنولوجي.
إن هذه المقاربة للتخفيف من حدة البطالة لا تتطلب الكثير من التنظير والإجراءات، وإنما إرادة قوية، لأن دفع القوة البشرية في سن العطاء هو السبيل الوحيد لتحقيق التنمية والتقدم بسواعدهم جهودهم، وبدون هذا لا يمكن أن يكون الوضع سوى تربة خصبة للتشنج الاجتماعي والإرباك الاقتصادي والسياسي.
المقال الشهري الخامس لجيهان مقني ضمن قائمة القراء يكتبون