رسالة الدكتوراه المستهجنة وتجنّيها على الإعجاز القرآني : بقلم حاتم الكسيبي
لم يكن من اليسير الخوض في مثل هذا الموضوع إذ تفترض مناقشة رسالة دكتوراه في ميدان علمي ما التخصص والدراية بمجال البحث و الإلمام بحيثيات الموضوع و سبل المعرفة المتبعة طيلة سنوات البحث. لعل أول ما يسجل من غرابة ألمت بهذه الحادثة التي أقضّت مضجع الجامعة يتمثل في خوض مدرسة الدكتوراه جيولوجيا وعلوم المحيط في موضوع فيزياء الفلك دون تعاون مع مخبر متخصص في الخارج أو فريق عمل ساهم بقسط هام في بحوث منشورة في هذا المضمار. ولكن الحرية الأكاديمية تفرض في ما تفرض إمكانية الخوض في شتى المسائل دون قيد أو شرط، لاسيما وأن لرسالة الدكتوراه أستاذ مؤطر و تقريران يختتمان أعمالها اذ يصدران عن أستاذين في الاختصاص ليحسما أمرها فيقترحان تقديمها للمناقشة أو رفضها والمطالبة بإصلاح ما لا يستقيم شكلا ومضمونا. أما الإشكال الثاني الذي يراه أغلبية الجامعيين أمرا معيبا في هذه الأحجية “العلمية”هو تسريب نسخ من بعض أوراقها لا سيما تلك الخلاصة التي كانت فعلا جملة من الخزعبلات التي لا تستقيم إذ تسارع صاحب الأطروحة في تفنيد النظريات الواحدة تلو الأخرى دون أن يعرض بديلا معقولا ولو كان بسيطا بل التجأ لفهم سطحي لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لتأييد وجهة نظره فأفقدها رونقها وقال ما لم يقل أهل الرجاحة والعقل في التفسير من علماء الدين بتلك الحجج ولم يتحدث عنها كبار العلماء المعاصرين الذين سعوا شوطا طويلا في بيان الإعجاز العلمي للقرآن.
لعل الافتراء على الإعجاز العلمي للقرآن كان مدعاة لكتابة هذه السطور إذ ارتاب البعض من العامة لمّا حاولت رسالة الدكتوراه المستهجنة الغوص سطحيا في بعض آي القرآن. لكن القرآن الكريم كتاب هداية و منهاج حياة أنزله الله عز وجل لمقصد عظيم يتمثّل في هداية البشر إلى خالقهم، وبيان طريقة عبادته، و يتضمّن أيضا الدعوة إلى أنبل الأخلاق والقوانين التي ينبغي أن تحكم معاملات الناس بعضهم البعض. فليس القرآن كتاب علوم طبيعية أو أدب وإن حوى في هذا الصدد الكثير من الإشارات في مجال الطب والفلك والجيولوجيا و أفحم بأرقى الصور الأدبية علماء الكلام و الألسنية. قال تعالى:” قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم” (سورة المائدة 15-16). و لعلّ أكبر دليل على ما قيل من قبل سؤال الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم عن الدورة الفلكية للقمر. قال تعالى:” يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ” فكانت الإجابة: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ (سورة البقرة 189). لم يحدثهم الرسول الكريم صلى اله عليه وسلم عن وظيفة القمر و حركتها في المجموعة الشمسية إذ أوحي بالقرآن لما هو أهم من تلك المعلومات الجزئية. لم يكن القرآن إذن كتاب علم فلك أو فيزياء أو طبّ، كما يحاول بعض الملتمسين فيه هذه العلوم أن يبّينوا ذلك، وقد يبلغ الحماس ببعض المتحمسين لهذا القرآن أن يحاولوا إضافة استنتاجاتهم ليكسبها صفة الحقيقة القاطعة والمطلقة.
إنّ تعرّض القرآن الكريم للكون بما فيه من سماوات وأرض وكواكب في أكثر من ألف آية كان بهدف الاستشهاد بقدرة الله الغير المحدودة وعلمه وحكمته تعالى. فهو الذي خلق هذا الكون، والقادر على أن يعيده كما بدأه تارة أخرى. لقد حوت عديد الآيات حقائق علمية غير قابلة للجدل عن الكون بما يبرهن للأجيال القادمة التي سوف يكشف لها من العلوم ما لم يكشف لمن قبلها. قال تعالى:” سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد” (سورة فصّلت 53).
سأضطر لبيان بعض الملابسات التي حوتها خلاصة البحث والتي تؤلب المناوئين لقدسية هذا الكتاب فيزدرونه اذا فسرت معانيه و ينسبونه إلى القرون الوسطى حتى يركن الى التاريخ ولا يلامس الحاضر الواقع و المستقبل. أمّا المجرة وامتدادها فقد تحدث عنها القرآن في قوله تعالى “وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون” (سورة الأنبياء 33) وقوله أيضا “لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (سورة يس 40). فلقد بيّن العلم الحديث ابتعاد المجرات بعضها عن بعض فيتمدد الكون ويتسع ، قال تعالى “والسماء بنيناها بأيد وانا لموسعون” (سورة الذاريات 47). أمّا في ما يخص الأجرام السماوية و دورها ، فقد ورد في القرآن العديد من الآيات التي تتحدث عن الكواكب والنجوم والشمس والقمر، فقال تعالى:”إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ”(سورة الصافات 6) و قال تعالى: أيضا “َإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ “(سورة الانفطار2) وقال جل وعلا:” فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم” (سورة الواقعة 75). فالنجوم تجري أيضاً في الفضاء الرحب كما اكتشف العلماء بعد دراسة طويلة، فعلموا تدفّقها بما يشبه النهر أو الجدول. و أمّا مساواة سرعة الضوء لسرعة الصوت فهذه مغالطة عجيبة إذ ينتشر الضوء في المادة و وفي الفراغ بينما يحتاج الصوت حيّزا ماديا من الفضاء حتى ينتقل من مكان إلى آخر. أضف إلى ذلك ترهات المقاييس المغلوطة التي قدّمت والتي لا يستقيم أمر حياتنا على كوكب الأرض لا سيّما حجم الشمس و بعدها عن الأرض.
انّ الإصرار على حشر القرآن و آياته ومحاولة الاستشهاد بها في بحث علمي تجريبي علامة على التعجل في استخلاص نتائج نسبية و استنقاص لكتاب الله الذي يقدم حقائق مطلقة وغياب للحجة الدامغة المقنعة ببطلان نظرية ما أو فساد تأويل قديم أنتجه الانسان عبر الحضارات. لعل الدليل الأوفر الذي بيّن ترهات هذه الرسالة المستهجنة هو الجري وراء تحديد المسافات والكتل و مقاسات الأجرام و تثبيتها و قياس سرعة الضوء وخلطها بسرعة الضوء في ظرف بضع سنوات فاختزل أشغال قرون من الملاحظة والتمحيص للإنسان المعمّر لهذا الكون في برهة مهينة من الزمن فبان العيب و ظهر الضعف العلمي لهذه المقولة.
الاستاذ حاتم الكسيبي
المعهد التحضيري للدراسات الهندسية بصفاقس