هدية عيد الفطر 1439 جوان 2018 إلــــى أحباب لطفي بوشناق وطوق الياسمين مــع صوفيا كريّم و هالة الفخفاخ
هدية عيد الفطر 1439 جوان 2018
إلــــى
أحباب لطفي بوشناق وطوق الياسمين
مــع
صوفيا كريّم و هالة الفخفاخ
“طفقـــت كـــلّ الظّـــلال
تنحســــــــر
تنكســــــــــر
فــ تندثـــــــــــــر
إلاّ ظلّـــــــــك يــا أبــــي
فهو ينمـــــــــــــو
يزدهــــــــــر
فــ ينتصــــــــــر…” ص-كـ
لا شيء يزدهر مثلك.. مثل ظلك يا أبت إلاّ الألم الجبّار الّذي كبّلني.. أسرني… وهو ألم فقدك قبل أسبوع من حفلنا، حفل [طوق الياسمين يغنّي لطفي بوشناق].. كنت سأغنّي خلاله أغنية : “يا خلّتي” أو “التّكتيك العربيّ” من التّراث الفلسطيني يغنّيها الفلسطينيّ : عبد الله الحدّاد ويغنّيها لطفي بوشناق كأحسن ما يكون..
أنت انتقيتها لي بذائقتك الفنيّة وحبّك للفنّ وجعلتني متحمّسة لتحدّي كلّ الذين غنّوها.. ردّدتها على مسامعك فكنت رغم المرض سعيدا بارتجالي الحسن لها… كنت تنتظر موعد الحفل يوم الجمعة 02 مارس 2018 لتقف لي مصفّقا كما تصفّق للمجيدين الّذين كنت تريدني منهم..
استعجلت الرّحيل.. فضمّتك السّكينة بين طيّات صمتها ووارتك ما بعد حجابها.. لم أشارك بالحفل ولم أكن بالموعد لأنّني كنت متأكّدة أنّك لن تأتي كما تواعدنا لقد صمتّ كما صمتت فلم تتحدّث في غيابنا سوى المرارة.
“أسال الشاعـــر عمــره
باثّا في الرعيـــــة الألــــم
كي تصير شعبا عظيمــــا
لم يمت الشاعر العظيم
ولم يتوقّف الشّعــــــب
عـــــــن الغنـــــــــــــــاء” ص-كـ
- هيّا يا هالة… لا تجزعي… سآخذك إلى الحفل الّذي لم تحضريه… ولم تغنّي فيه… سأحكي لك حكايته :
أبدأ بالجمهور الّذي ملأ مدارج مسرح محمّد الجمّوسي بصفاقس… ليلتها لم يوجد مقعد شاغر… أكثر الحضور كانوا من الشّباب فتيان وفتيات… أسرّ لي مصدر وثيق: “إنّ التّذاكر نفذت بسرعة قياسيّة..”
لقد غنّى هذا الجمهور الغفير الفتيّ “ناعورة الطّبوع” هذه التّحفة الفنية التي تعتبر من فوندوات المالوف… غنّاها الجمهور بتمكّن حتّى تخاله متخرّجا من المعهد العالي للموسيقى غنّى الجمهور احتفاء بالصدى النيّر : مطرب الوطن لطفي بوشناق.
والله لطفي يستحقّ هذا التّقدير وهو من يردّد : “أنا أعيش لأغنّي ولا أغنّي لأعيش”.
أحسست أنّ صفاقس كلّها تغنّي… وأنّ لصفاقس صوتا بديعا… وأنّه بالغناء تعبّر صفاقس عن أحزانها.
ولا أسرد حكاية عجائبيّة حينما أؤكّد لك أنّ الجمهور غنّى لأنّه حزن لغيابك وهذه الحقيقة غائصة في أعماق الاحتفال.
هذا الجمهور الأصيل الحبّيب عوّضك ليعترف أنّك ياسمينة أساسيّة في –طوق الياسمين- وإذا أذبلك الظّرف الجلل فلتحلي أكثر.
هذا الجمهور هو نفسه الّذي توسّلك للإعادة في الحفلات السّابقة عندما غنّيت “قارئة الفنجان” ولم يستسلم إلاّ بعدما أعدت له المقطع. هل تذكرين؟ وكذلك فعل عندما غنّيت: “أمانة يا ليل يا ليل طوّل”.
فأكرم بك وأعظم أيّها الجمهور الوفيّ الفهّيم
“لم يحفظ من مبادئ أوكليـــد
الخمسة عشر إلاّ خطين متوازييـــــن
لا يلتقيــــــــــــان أبدا.
قاعدة لقّنها الخاصّة للعامّة
وليتهم فعلوا ذلك في نطاق الهندسة
فهتف به هاتف إغريقـــــــيّ:
-“لحنوا تحفظوا” ” ص-كـ
- انظري يا هالة : لقد ارتفع السّتار :
اقتنصي معي المشهد… إنّه مؤثّث هذه المرّة وككلّ مرّة بطريقة مختلفة… إنّي لم أستطع أن أكتفي بالإنصات والرّكح يثيرني ويستهويني… لوحة لها وميض… نصّ يتملّكك لتأويله… جسد جذّاب لا يسمح لك بالانسحاب. من صاحب الصّنعة يا ترى؟ إنّه مهندس احترف تحويل المكان إلى أحلام. وبلمسات حانية نقله من خواء وسطحيّة إلى صرح بنيويّ تتماسك تفاصيله بألفة غامضة :
متى تركزي في أهمّ قسماته تدركي - الضّيــاء : نورا أرسله الياسمين الثّابت كسحب وراء المغنّيات وكأنّه نذر نفسه للإشراق كان معلّما متربّصا بكتلته الشّاهقة بكلّ ظلمة فالتمعت لوميضه الوجوه التي ارتفع عنها خوف البدايات.
- السّــواد : لون الأناقة والجلال ارتدته المغنّيات فبدون داخل قوس الضّياء الياسمينيّ كبؤبؤ العين. ترى أهو بؤبؤ عين صفاقس أم بؤبؤ عين لطفي بوشناق ضيفهنّ. ؟
- غنّت المغنّيات غناء جماعيّا كلّه من مدوّنة لطفي بوشناق. كان غناء دافئا شهيّا يلتفّ على الأفئدة والضّمائر فيأتيها بالخيالات والرّؤى والحيرة والحبّ ويعطيها أجنحة لتطير وأوجاعا لتئنّ ثمّ تتفكّر. أغنية مثل “إنت شمسي إنت” أو مثل “نسّاية” أو خاصّة مثل “مازال مجدك”.
“بلادي إلّي فيها العيش يطيب ويحلى
نثنيلهـا هاماتنـا بإجــلال
وانبـوس ترابهـا وآش أحلــى ؟
تونس عزيزة وساكنة في البال”
شعر ولحن وتوزيع وأداء مثل هذا يصنع المعجزات. - غنّت سميّة “لا يغيب نور الحبّ عن عينيّ” من كلمات حسن شلبي ولحن لطفي بوشناق.
أبدعت سميّة فأطربت لمّا أجلت هذه الغنية كالعروس بحنجرتها الرّقراقة وإمكانيّاتها الصّوتية العريضة.
ذابت سميّة في وهج المشاعر كعادتها فتسلّلت إلى ما وراء الموسيقى وصارت تهمس في آذاننا أسرار ما وراء اليوميّ الذي أصابنا بوحشيته.. - وغنّت ريم الفتاة المهووسة بالفنّ “غنّ يا فنّان” من كلمات آدم فتحي وألحان لطفي بوشناق.
وبعادة إحساسها المرهف صارت هي الفنّان المحلّق في غياهب السّماء قرب النّجوم وطارت مع البلابل والعصافير توقا للحرّية صنوة الفنّ وعروسه.
لمّا كانت ريم تهيم بأغنيتها مرّت على الشّاشة الرّكحيّة صورة مؤثّرة تجمع الفنّانين التونسيّين الأفذاذ : مصطفى الشّرفي ونعمة وعلي الرّياحي والملحّن الشاذلي أنور.
والطّريف أنّ الصّورة من اختيار ريم نفسها. - وغنّت منى في نفس المعنى أغنية “أنا حبّيت واتحبّيت” من كلمات آدم فتحي وألحان عبد الحكيم بلقايد.
أغنية جميلة معنى ولحنا ذات إيقاع شجيّ هو إيقاع الحنين إلى الزّمن الطربيّ الجميل الذي تربّى عليه لطفي – الطّفل وهو زمن عمالقة الموسيقى الشّرقية : أبي خليل القبّاني ومحمّد عثمان والخلعي وسلامة حجازي وصالح عبد الحيّ والسيّد درويش ومحمّد القصبجي وأبي العلا محمد وغيرهم من الأفذاذ فرغم أنّهم كما قال لطفي بوشناق نفسه “يجهلون كتابة النوتة يلحّنون أقوى التّلاحين” لأنّ في نفوسهم الرّقيقة قد همس عبقر نغم الخلود.
- وغنّت لبنى أغنيتين الأولى : “خدعنــي” و الثانية : “غالبك غالبك”
وكلتاهما من كلمات آدم فتحي وغناء لطفي بوشناق وكبقيّة الياسمينات أظهرت لبنى كفاءة صوتيّة وإحساسا صادقا وتغلّبت على صعوبة الأغنيتين ونالت إعجاب الجميع.
- وغنّت سنية أغنية من التّراث العراقي اختارتها ممّا غنّاه لطفي بوشناق.
أغنية مؤثّرة عميقة كيف لا وهي من الموروث الغنائي لبلاد الرّافدين الموسوم بالكلم..
تفانت سنية في إيصالها للشّعب التّونسي الذي مازال لا يعرف الكثير عن مخزن الخليج الثّقافي ووفّقت في ذلك أيّما توفيق. - وغنّت ضحى : فيروز تونس “سرايفو” من كلمات آدم فتحي ولحن الجزائري : فاضل النوبلي.
كان غناء ضحى قمّة في الإمتاع والمؤانسة. أداء من الرّوح مع وعي بالمضمون.
كفاءة واقتدار صوت رقيق رقّة البلاّر جواب وقرار عطاء بدون حدود كما تعطي عبيرها الأزهار. - لقد أشرفنا يا هالة على نهاية الحفل لكن قبل ذلك صعد لطفي بوشناق إلى الرّكح ليشكر كلّ من شارك فيه بتواضعه المعهود وصدقه اللاّمحدود إلى درجة أنّه قدّم نفسه كذلك : “أنا لطفي ياسمين”.
صفّق الجمهور كثيرا وهو واقف تقديرا للمطرب المحبوب ثمّ غنّى : “هاموا بشقرا وسمرا وهمت بالتّونسية”. - تأمّلي يا هالة وطنيّة هذا الفنّان. إنّه يحمل في أعماقه هموم تونس منذ بداياته :
أنا واكبت مسيرته التي انطلقت في الثّمانينات وتابعت ظهوره الأوّل لمّا غنّى ذلك الشابّ الوسيم دورا وسط تخت كبير.. منذ ذلك اليوم شغل النّاس بصوته السلسال وذاع صيته بسرعة فائقة في جميع الدّول العربيّة.. لماذا؟
لأنّه بدأ كبيرا فمن يقدر على غناء دور بتلك السلاسة والطراوة والحلاوة؟؟
والفنّ لا يرحم.. فمن يبدأ صغيرا في الفنّ لن يكبر أبدا..
لطفي بوشناق حامل لتونس بين جنباته محبّ لها بكلّ صدق وقد أوصله صدقه إلى القمّة.
صدقه في الوطنيّة وصدقه في المعرفة الفنية وصدقه في عمله.
لكن هناك أمر آخر لابدّ من الوقوف عنده وهو أنّ لطفي بوشناق شاعر.. نعم شاعر ربّما هو نفسه لا يعرف ذلك..
إنّ الشّاعر ليس من ينظّم كلاما موزونا مقفّى وهو ليس من يجمع شعره في ديوان
بل الشاعر هو من يتغنّى بقلب الحياة وهو الذي يغنّي ليخاطب ذاته وما يسكن فيها من آلام. هو الذي يرى ما لا تعلنه الأصوات.. هو الذي يسيطر عليه الإيقاع حتى في قيامه وقعوده..
تفرّسي في وجهه فستلاحظي لنظرته إيقاعا ولشفتيه إيقاعا ولخدّيه إيقاعا.
أصغي إلى حديثه فستلاحظي أنّه حديث منغّم ملحّن موقع وهو يستعمل فيه صوته الطّربيّ.
سليه نثرا يجيبك شعرا. إنّه نهر من الأشعار وما يشبه الأشعار من مواويل وموشّحات وأناشيد وملاحم وأمثال هذا زيادة إلى حفظه للقرآن والآذان وأسماء الله الحسنى.
هكذا كان هوميروس الشاعر الإغريقي الذي عاش في القرن السّابع قبل الميلاد..
كانت أشعاره سجلاّ للفكر اليوناني فكان الحفل الممهّد لظهور عظام تلك الفترة : سقراط – أوكليد – فيتاغور – أرشماد – أبقراط – جلنوس – هرودوت
وعلى هذا الأساس بدأ الفكر شعرا.
إذن كلّ إبداع يحتاج إلى شاعريّة يدور في فلكها وربّما تحتاج هذه الدّورة الإبداعيّة إلى قرون.
لكن حفل [طوق الياسمين يغنّي لطفي بوشناق] كان دورة شاعريّة بدأت من عامين تقريبا وفي حفلها ظهر مبدعون كثيرون يستلهمون ابتكاراتهم من حضور هومروس تونس بينهم وهو لطفي بوشناق أذكر منهم خمسة :
أوّلا : الياسمينات أو les hameridais وهنّ بنات هومروس اللّواتي يغنّين أو يرتلن أشعار هومروس فيحوّلنها إلى ملحمة ولا أقصد هنا سوى مغنيات طوق الياسمين اللاّئي سمّيتهنّ منذ حين واحدة واحدة حين رتّلن أغاني لطفي بوشناق جماعيّا أو فرديّا وقد جعلهنّ ألم غيابك يبدعن فكان رنين أصواتهنّ من أصل أنين مهجهنّ.
ثانيا : مقدّمة الحفل : السيّدة سرور القرمازي التي حرّرت كلمة التّرحيب بالضّيف فأظهرت كفاءة في التّأليف وذكاء في اختيار التّعبير هذا زيادة إلى حضورها الكارزمي وصوتها الخطابي العذب المؤثّر.
ثالثا : مهندس الدّيكور وقد بلغني أنّه فريق نسائي من بنات طوق الياسمين اللّواتي أوكلت إليهنّ برمجة الشّاشة الرّكحيّة.
لقد كانت الشّاشة فكرة مبتكرة لأنّها مدّت الجماهير بالكلمات والصّور والأسماء والتّواريخ المتّصلة بالأغنيات وهذه بادرة وسابقة حميدة لأنّها تثقّف الحاضرين.
رابعا : الطّفلة العازفة على آلة القانون : فرح الفارسي والتي انضمّت جديدة في هذا الحفل. لقد أثبتت براعتها رغم صغر سنّها وتجربتها القصيرة.
ومن ورائها نعترف لجميع العازفين بالمهارة والمقدرة والتميّز.
خامسا : المايسترو : ثامر الطرابلسي :
زيادة على إحكامه قيادة الفريق وقيادة الحفل كلّه. فقد أكسب الرّكح جماليّة بحركاته. فلكلّ حركة من حركاته إيقاع مبتكر حبّب صورته للنّاظرين. وصار بذلك نجما جذّابا أكثر جاذبيّة من نجوم السّينما..
ثمّ لابدّ أن نبرز للقرّاء كفاءة هذا الرّجل في ميدان الموسيقى.. كفاءة جاءت من المعرفة ومن الصّدق في العمل وخاصّة من الذّوق الفنّي.. فهو يتبنّى القطعة الموسيقيّة ويعاشرها حتّى تبوح له بأسرارها ثمّ يطوّعها لمشاعره فيصوغها في حلّة نسجها من ذاته ومن عبقره الخاصّ…
وكانت القمّة في أغنية : “ريتك ما نعرف وين” لقد كان توزيعه مدهشا لها..
لقد وقفت لك إجلالا يا أستاذ ثامر وكثّر الله من أمثالك..
- لا أشكّ يا هالة – وأنت تلميذته – أنّك توافقينني الرّأي..
“أجلسته الجماعة على الكرسيّ
فجعل يبكـي فرحـــــا
ولمّا سأله واحد منها : “لماذا
تبكي في هذا اليوم السّعيدــ؟”
ردّ :
“أبكي على الشّهـــــــــــداء.” ” ص-كـ
لم يرض الجمهور بمغادرة مدارج مسرح محمد الجموسي دون سماع أغنية : “خذوا الكراسي” فطالب المطرب الكبير بغنائها وبما أنّه كريم لبّى الطلب وهو فرحان.
لماذا قلت “كريم” ؟ لأنّه رفض كل مقابل عن هذا الحفل إذ أراد أن يساهم في تقديم أرباح الحفل إلى جمعية المروءة بصفاقس وهي جمعيّة تعتني بالمعاقين.
ما رأيك يا هالة لو تفعلين مثل لطفي بوشناق وتقبلين مطالبتنا لك بغناء “يا خلّتي”؟ أعرف أنّ مصابك جلل. لكن الغناء هو تعبير عن الألم.
غنّي لنا ولو مقطعا صغيرا حتّى تتخلّصي من الصّدمة فالغناء دواء وشفاء.
…………………………
ما أقبل الضيم بأرضي
ما أقبل الضيم بعرضي
يا يا خلّتي
…………………………
لازم اتكون تكتكجي
ابن تكتكجي
يا امتكتك كل المسائل
– إلى روح السيد نجيب الفخفاخ –
-رحمه الله رحمة واسعة –
والد الأستاذة الجامعيّة : هالة الفخفاخ